برومانسية حالمة يمتاز بها الشرق برمته، نظر العرب إلى ربيعهم بنشوة الفتوحات والانتصارات التي حرموا منها طويلا، فقط ليظهر أفق جديد يشبه الاكتشافات التي خرجت صدفة أثناء محاولة كيميائيي أوروبا في العصور الوسطى تحويل المعادن إلى ذهب. لكن الذهب الذي كسبه العرب أثمن من معدن الذهب. فالمكاسب التي انبثقت من الربيع العربي تمثل قفزة رائعة تبدت في عدة وجوه وجلبت وعيا لم يكن بالإمكان تحقيقه حتى لو تولى ديكارت نفسه مهمة خلقه.

أولا: فقدت الحركات الإسلامية رونقها واتضح لعموم الجماهير عجزها وظلاميتها وترهلها وعدم صلاحيتها لتحقيق التنمية المنشودة والخلاص من الفقر والبطالة التي جعلت الأمة أضحوكة لنفطها واقتصادها الريعي الذي لم يعد بالخير إلا على الدول الصناعية المصدرة لإبداعاتها ومنتجاتها في الأسواق الاستهلاكية العربية الضخمة. كما انكشف زيف ادعاءاتها بالاعتدال ومحاكاة تركيا وماليزيا على الرغم من الفرق الشاسع بينها وبين هاتين الدولتين التي تنص دساتيرها على علمانية الدولة كرؤية استراتيجية بينما لا تمنع أيا كان من استخدام أدوات مختلفة لتحقيق هذه الاستراتيجية إسلامية كانت أو غير إسلامية، أي أنه لا مجال للادعاء بمشابهة تلك الدول لأن الاستراتيجية الأساسية مختلفة وإن تشابهت الأدوات. فالاستراتيجية ثابتة والأدوات تتغير بحسب ما تجلبه صناديق الاقتراع التي تنصِّب وتعزل من يقود المسيرة لتحقيق الاستراتيجية المتفق عليها.

ثانيا: انكشفت اللعبة الأمريكية لغالبية العرب الذين يملأون الشوارع محاولين وقف السيل الجارف الذي شقته الدول الغربية وحلف الناتو بهدف quot;دعم الديمقراطية والحرية لشعوب المنطقةquot; من خلال تمويل quot;الجهاد المقدسquot; وكأن أمريكا تقيم وزنا للإسلام والمسلمين ولا تنظر إليهم إلا كسوق استهلاكية تخدم اقتصادها ومواقع استراتيجية تخدم آلتها الحربية. كما خسرت الدول العربية التي أخذت على عاتقها تنفيذ المخطط الأمريكي بإعادة تقسيم المنطقة على أساس طائفي يضمن لها عدم نهوض هذه البلدان لقرون قادمة. وتمثلت خسارة تلك الدول بتلطيخ صورتها بالإضافة إلى ملياراتها التي أنفقتها في سبيل تحقيق الهدف الأمريكي.

ثالثا: زال الحاجز النفسي والرهبة الطاغية بين الشعوب العربية وأنظمة الحكم التي طالما تصدت للنقد والمحاسبة بالقمع والاعتقالات، ولم تعد القيادات قادرة على إحاطة نفسها بالتقديس والسلطة المطلقة كما كانت سابقا، وأغلب الظن أنه لن يعود أي من الأنظمة الجديدة إلى احتكار السلطة بعد ما شهدته الشوارع العربية من ضغط جماهيري، وهي التجربة الجديدة بالنسبة للشارع العربي الذي لم يجرب جدوى الحراك الشعبي الشامل من قبل.

رابعا: ظهرت مقاييس جديدة للحكم الراشد وهي التنمية الاقتصادية ومحاربة الفساد، وهذا تطور واعد من حيث أنه ألغى شعارات الحقبة السابقة التي كانت آيدولوجية ودوغماتية أرعدت كثيرا ولم تمطر، بل لقد ألحقت ضررا كبيرا بالشعوب التي زادت فقرا وبطالة واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء ولم تحقق فوائد عملية وملموسة للشعوب سوى زيادة أعداد خريجي الجامعات ممن ينضمون إلى صفوف العاطلين عن العمل لبضعة سنين ثم يحاولون الهجرة بشكل مشروع أو غير مشروع.

ولا بد من الانحناء احتراما لمصر وشعبها الذي قاد عملية الإنقاذ بقوة وألهم شعوب الجوار ليعيدوا تموضعهم في المسار الصحيح.