التحولات الثورية التي تجري الآن في أكثر من دولة عربية ومغاربية بعد مخاض الربيع الديمقراطي والتي تتسم بالصراعات الأيديولوجية والطائفية بين أقطاب التيارات السياسية , يطرح العديد من التساؤلات الجوهرية في ماهية هذه الصراعات وفي مدى قدرة هذه التيارات السياسية والدينية أيضا على إنجاح التحول الديمقراطي كمحطة عبور من أجل بناء ديمقراطيات حقيقة تتمثل القيم والشعارات التي ثار من أجلها شباب الربيع الديمقراطي. هذا على المستوى المنهجي يفرض علينا دراسة تطور الحراك الربيعي في أكثر من قطر ومن وجهة تجارب مختلفة انطلاقا من ثلاثة مداخل أساسية وهي : طبيعة الحراك المجتمعي , مرحلة الانتقال الديمقراطي ثم مرحلة بناء النظام الديمقراطي. من وجهة نظر النخبة الفكرية فإن الانطلاقات تحدد النهايات وتوفر الشروط الموضوعية للتغيير, من ثقافية وفكرية وسياسية ومجتمعية بنيوية تعتبر محددات أساسية من أجل إنجاح تغيير منظومة النظام الاستبدادي من مؤسسات فاسدة وسياسة سلطوية لا ديمقراطية ثم نظام حكم استبدادي. هذه الشروط على المستوى النظري مقبولة ومنطقية بالنظر إلى أن الاطاحة بأنظمة ديكتاتورية متجدرة في البناء المجتمعي والسياسي والاقتصادي لا يتأتى فقط في مجرد الإطاحة برمز النظام وحاكمه وإنما بتغيير كافة الترسبات المتعددة وإلا سنكون أمام مجرد إصلاح لنظام فاسد ولكن يحمل بعض الإيجابيات التي يمكن تطويرها وتقويتها. السمة الغالبة على ثورات الربيع في شمال افريقيا والشرق الأوسط على الأقل في بداياتها الأولى هي الطابع السلمي وطبيعة الشعارات المرفوعة وكذلك قوة التحرك الشبابي المنتمي لجيل التحرر القيمي من رواسب الانتماءات التقليدية التاريخية. هذه الارهاصات التحررية صحية جدا ولأن طبيعة الأنظمة الديكتاتورية والسياقات السياسية والثقافية والدينية والعرقية تختلف من بلد لأخر فإن مسار الثورات اختلفت أيضا من بلد لأخر. لذلك فإن الثورات كانت لها ارتدادات بحجم وقوة الحراك ومقاومة الأنظمة الاستبدادية. فكانت ثورة الياسمين في تونس أقل ارتدادا من مثيلتها في مصر وليبيا واليمن وأقل دموية وعنفا من الثورة في سوريا والعراق. تعني مرحلة الانتقال الديمقراطي في مباحث علم السياسة, مجموع العمليات والتفاعلات المرتبطة بالانتقال أو التحول من صيغة نظام حكم غير ديمقراطي إلى صيغة نظام حكم ديمقراطي. وبناءً عليه، فإن مفهوم الانتقال الديمقراطي يشير من الناحية النظرية إلى مرحلة وسيطة يتم خلالها تفكيك النظام غير الديمقراطي القديم أو انهياره، وبناء نظام ديمقراطي جديد. وعادة ما تشمل عملية الانتقال مختلف عناصر النظام السياسي مثل البنية الدستورية والقانونية، والمؤسسات والعمليات السياسية وأنماط مشاركة المواطنين في العملية السياسية. هذه المرحلة بالذات هي أهم مرحلة في البناء الديمقراطي : ذلك لأن نجاح سيرورة التفكيك والبناء الديمقراطي مرهون بفاعلية المجتمع المدني ومشاركة مختلف الأطياف السياسية في الحوار الذي سيحدد أفق وملامح النظام الديمقراطي. لذلك فإن السيناريوهات الواردة في هذه المرحلة هي إما الوصول إلى تشكيل نظام ديمقراطي حقيقي أو نظام هجين يجمع بين آليات ديمقراطية وأخرى لا ديمقراطية أو السقوط في حالة الفشل القصوى في مستنقع الحروب الأهلية والطائفية. مما سبق نستخلص أن بناء النظام الديمقراطي في دول الربيع من دون الاستفحال والسقوط في الصراعات العنفية تستدعي استحضار وتحقيق العوامل التالية: أولا: بناء مؤسسات حرة ومنتخبة. ثانيا: تعزيز الحريات الفردية والجماعية. ثالثا: بناء منظومة قوانين شفافة وقضاء مستقل.
الضامن القوي لنظام ديمقراطي شفاف يستوعب كافة الاختلافات السياسية والدينية والعرقية هو نظام المؤسسات الحرة والمنتخبة. ونعني بالمؤسسات الحرة , كافة المؤسسات السياسية ( كالحكومة, البرلمان...) والمؤسسات الاقتصادية( الشركات العمومية والخاصة...) والاجتماعية (منضمات المجتمع المدني...) المفتوحة بشكل حر أمام كافة الأفراد والأحزاب والمنضمات بغض النضر عن الانتماءات السياسية والدينية والعرقية وبشكل منتخب يضمن الحق للجميع في البناء المجتمعي الحر.
الركيزة الأساسية للنظام الديمقراطي والتي ستسهر المؤسسات على امتثالها وتوفيرها بشكل ديمقراطي هي الحريات الفردية والجماعية. ذلك أن الحريات الفردية ( حق التعبير الحر, حق الملكية, الوصول إلى المعلومة الاستثمار الحر...) والحريات الجماعية ( تأسيس الأحزاب والمنظمات والشركات..) كلها حريات أساسية لبناء نظام ديمقراطي متعدد المشارب والتوجهات يضمن تحقيق الحريات واحترام المؤسسات المنتخبة. إن التهديد الوحيد للنظام الديمقراطي هو التهديد الذي يأتي من الأفراد والجماعات لحظة شعورها بالاضطهاد وانتهاك حقوقها مما يؤدي إلى الخروج على المؤسسات والقوانين واستعمال العنف دفاعا عن النفس. لذلك فإن مطلب تعزيز الحريات الفردية والجماعية هو ضمان لمشاركة الأفراد والجماعات في البناء المجتمعي الحر كما هو ضمان لاستمرار النظام الديمقراطي نفسه.
عادة ما تنتهك القوانين باسم الديمقراطية في العديد من الأنظمة الهجينة التي تجمع بين قليل من الديمقراطية وكثير من السلطوية والاحتيال المنضم على المؤسسات والقوانين باستعمال الريع أو المال أو جماعات الضغط. لذلك فإن الضامن لعدم وجود مثل هذه الخروقات اللا ديمقراطية هي وجود منظومة قوانين شفافة تضمن بشكل أساسي الحريات الفردية الطبيعية وتمنع جميع أنواع الخروقات ضدها. ثم ضرورة وجود قضاء مستقل يحقق العدل والقانون المتفق عليه من طرف المجتمع ويضمن المساواة للمواطنين في الاحتكام إليه بغض النظر عن أصولهم أو انتماءاتهم أو أنسابهم. مجتمع الحريات والمؤسسات والعدل والقانون هو الأقدر بتحقيق نظام ديمقراطي يحمي الاختلافات البشرية ويمنع التنازع والتصادم فيما بينها.
- آخر تحديث :
التعليقات