ظهرت تغييرات على خلفية العوامل التي نتجت من تلاعب الدول العالمية والعربية بمصير الثورة، كظهور القوى الأكثر تطرفاً من المتوقع على الساحة، والتي لبعضها يد طولا فيه. مطالب البعض من هذه التيارات الإسلامية السياسية المتشددة تجاوزت مفاهيم الثورة، فأحدثت خللاً فاضحاً في حالة التوازن بين القوى المذهبية في المنطقة، تلائمت بشكل غير مباشر مع ما نقبت عنه وابتغته طويلاً السلطة الشمولية، كما وأثرت نضالهم بشكل سلبي في دبلوماسية المعارضة الخارجية بقدر ما دعمت الثوار في الداخل ضد النظام، وهي التي أدت إلى تفاقم شكوك الدول الأوروبية وأمريكا بمصير الثورة ومستقبل سورية بعد زوال السلطة الحالية، فكانت على أبعاد هذه التحولات النوعية تراخ في تصريحات أمريكا وتراجع من بعض مواقفها، وبالمقابل تشديد روسيا على عنادها المتزمت ضد الثورة.

سبقت الدبلوماسية الأميركية هذه، دراسات وتحليلات نوعية، حول القوى التي تسيطر على السلطات الحديثة في المنطقة، فبرزت إعادة نظر للإسلام السياسي بكل تياراته ضمن ظروف الشعوب الإسلامية بمطلقه، مع غياب للأنظمة الديمقراطية هناك. أقتنعت الأغلبية فيهم على أن الإسلام السياسي في كليته، بدءاً من التيارات الليبرالية إلى أبعدها تطرفاً، يسيرون في طرق نضالية متنوعة، لكنهم يقفون في نهاية المطاف على نفس المنهجية الفكرية في التعامل مع الشعوب والمجتمعات والسياسات الخارجية، والأهم أنهم اقتنعوا بأن المثال التركي لا يمكن أن يحصل وينجح في الدول العربية، وأدركوا سوية التلكآت التي تجوب السياسة التركية في التعامل مع العالم الخارجي والواقع الداخلي، في ظل الإسلام الليبرالي المسطر، رغم السيطرة المطلقة لها على الداخل التركي، والذي حصل عليه من وراء الدعم المادي اللامحدود لإقتصادها، فقد ضخت رؤوس أموال إليها بشكل لا مثيل له في التاريخ، وعلى مدى سنوات متتالية، بلغت نسبتها 70 % من مجموع الدخل القومي التركي العام، وهي التي اخرجت تركيا من عدم الإنزلاق إلى هوة الركود أو الإنهيار الإقتصادي، الذي لا يزال يجوب الدول الرأسمالية العالمية ( حدث مثل هذا في مشروع المارشال بعد الحرب العالمية الثانية عندما قدمت أمريكا أموال ضخمة لبناء أوروبا ) كل ذلك لإبرازها كمثال يحسد عليه بين شعوب العالم الإسلامي، لكن الواقع المبان في السياسة الخارجية الأميركية تبين على إنها اصبحت تبدل بشكل سريع وواسع قناعاتها وتكتيكها حول سيطرة الإسلام السياسي الليبرالي في المنطقة.

لذلك بدأت تظهر محاولات خلق البديل الأمثل، والعودة إلى القوى الثورية الحقيقية، التيارات التي فجرت الثورات في الشرق، مع الابتعاد بنمطية معينة عن التيارات الإسلامية السياسية بكليتها، وعليه ظهرت تناقضات بين أمريكا ومطالب تركيا العامة حول الثورة السورية، ومنها عملية تسليحها، وأنواع وأساليب الدعم، فالتراجع عن الكثير من الوعود السياسية واللوجستية للثورة السورية اصبح واضحاً، والتي رافقتها تراجع عن المواقف والتصريحات السياسية كما ذكرنا، ولم يقتصر ذلك على التصريحات بل يرافقه بحث عن البديل، وخلق قوى جديدة تنطلق من أماكن مغايرة، ليست تركيا وقطر، بل بدأت تظهر الاردن في مقدمة الدول المناسبة لهذه النقلة التكتيكية، لخلق مجموعات علمانية في إتجاهاتها على أرضها، وبثها في الثورة السورية.

مخاوف الأردن وتركيا من الثورة السورية القادمة على كيانيهما عديدة، لذلك ينقبان عن الكثير لدعم الجهات التي ستحميهما من شرارات الثورة نفسها. تركيا ترعبها نهوض القضية الكردية على الساحة و حضورها على مناصات الدبلوماسية العالمية وفي المحافل الدولية، لذلك تصر على استراتيجية الإسلام السياسي الليبرالي، رغم معرفتها التامة بمدى سهولة مرور التيارات المتطرفة من خلال هذه البنية، وعدم القدرة على إيقافها، بعض من هذه التيارات غذيت مشاربها لفترات طويلة من قبل سلطة الأسد، وتدربت على ارضية غارقة في ثقافة موبوءة مليئة بالشرور، البعض من هذه التيارات هي التي تقلق الوجود الأردني بشكل واسع، وتدفعها لفتح أبوابها والسماح لبناء معسكرت للقوى العلمانية الجديدة والمغايرة للمفاهيم الدينية على أرضها، الملائمة للإتجاه الأميركي الجديد. إلى جانب التدخلات المتنوعة الأخرى، الغارقة في الإنتهازية والتطفل أو العابثة بالثورة ومبادئها بنفاق وإنتهازية. وكل هذه الإشكاليات تنتهزها سلطة بشار الأسد المجرمة وجلاوزته، لإطالة عمرها، والتمادي في إجرامها بحق الشعب السوري أمام مرأى العالم كله، وبدون أن يحركوا ساكناً يستحق التذكير به. وكل ما يفعلونه ينقلون المعارضة والثورة من مساعدات دولية فاشلة إلى أخرى أفشل، وسلسلة التلاعب بمصير الثورة طويلة، ومليئة بالخدع، بدأت من نقل القضية من الجامعة العربية إلى مجلس الأمن، ومن كوفي عنان إلى الأخضر الإبراهيمي، وأخرها وأخدعها هي محاولة خلق الضجة حول المنطق الروسي، وهو الحوار مع نظام بشروط أوعدمه، وهي ليست سوى محاولة مع نفاق تكتيكي جديد كسابقاتها، مهمتها الرئيسية تمرير بعض الزمن ثانية، إلى ان يتفتق أذهانهم عن مشروع آخر، إلى أن يصلوا إلى اتفاق فيما بينهم.

مساندة الثورة تحددها الاجندات والمفاهيم المطروحة سابقاً، مقابلها تتلقى السلطة السورية الحالية من الآخرين مساعدات لوجستية بدون تحديد، وبلا مراقبة لسياستها الإجرامية، أو مراجعة لسويات الدمار التي تقوم بها في الوطن.

بين المنطقين المتناقضين، تتيه الثورة، ويستمر اجرام بشار الأسد، وتبقى المعارضة الخارجية متباعدة وضعيفة، ومتناقضة بين بعضها، فمن جهة كثر الحكام والأحكام، ومن جهة أخرى تفاقم الفساد والإجرام من قبل جلاوزة السلطة، وعلى اطراف هذين المتناقضين أزداد التهجم على الثورة بشكل عام، وتنوع البعض في محاولات تشويهها، يخلطون الفاسد مع الثورة للنيل منها، عمليا وإعلامياً. لكن في مجمله الثورة حاضرة ونهاية السلطة حتمية لا شك فيها، سيتبعها تساقط الانتهازيون والمارقين وسيبدأ زوال النظام الشمولي بكليته.

سوريا اليوم في حكم الثورة رغم كل تناقضاتها، وهي من الثورات النادرة في التاريخ نوعية، والزمن القادم كفيل بتنقية التيارات المتطفلة عليها، وتصفية الحسابات، ومحاكمة الذين شوهوا الثورة وكانوا السبب في تطويل عمر السلطة المجرمة، وتفتيت نضال الشعب السوري، الشعب الذي يهلك هناك بدون رادع إلهي ndash; إنساني، مع غياب كلي للأخلاق، خاصة عند الدول والمجتمعات الغارقة في الصراع السوري.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأميركية

[email protected]