7- البشر وكائنات السماء الأخرى في الكون المرئي: معضلة الاعتراف والإنكار؟
يعتبر عالم المستقبليات futurologue وأستاذ الفيزياء النظرية في جامعة سيتي كوليج في نيويورك ميشيو كاكو Michio Kaku أحد أبرز العلماء المعاصرين الذين يهتمون بشغف بأطروحة الأكوان المتوازية ويقول بهذا الصدد:quot; يمكن أن يتواجد كون كامل داخل ذرة، وأن تكون المجرات التي نعرفها والمحيطة بنا المكونة لكوننا المرئي ليست سوى ذرة في كون أوسع وأشمل وأكبر لا حدود لهquot;. ويضرب لنا مثلاً ذكياً عن هذا الكلام المعبر عن فكرة الأكوان المتعددة univers multiples ويقول:quot; عندما كنت طفلاً كنت أتردد باستمرار على الحديقة اليابانية لمشاهدة ومراقبات أسماك الكارب Carpes في حوض مياه كبير مخصص لها Aquariums فكرت في أنها تعيش في عالم فنتازي fantastique وغرائبي خاص بها وذو بعدين حيث يمكنها السباحة إلى الأمام والخلف وإلى اليمني واليسار. وتخيلت أنه يوجد بين هذه الأسماك سمكة عالمة ومن المؤكد أنها ستسأل نفسها بأنه لا يوجد أكوان أخرى أو عالم آخر غير الحوض الذي تعرفه ويشكل عالمها وكونها الخاص quot;. فنحن لا نعترف بوجود إلا بما نراه. وتخيلت أنني لو أمسكت بهذه السمكة العالمة وأخرجها من الحوض لأريها وجود عالم آخر خارج محيط الحوض القليل العمق، فماذا سترى خارج سطح الماء؟ سترى عالماً مدهشاً وفنتازياً غاية في الغرابة ومليء بمخلوقات لا تمتلك مجاديف أو زعانف في أجسامها، وستكتشف قواني فيزيائية جديدة في هذا العالم حيث المخلوقات التي تعيش فيه تتنفس بطريقة مختلفة عنهاquot;. إن هذه الصورة المجازية رائعة وتجعلنا نفهم أن إدراكنا ورؤيتنا للكون كبشر قد تكون، على المستوى الكوني المطلق الهائل، ساذجة بقدر سذاجة السمكة العالمة دخل حوض الماء. لذلك يتعين علينا أن نكون منفتحين عند التطرق لنظريات العوالم المتعددة أو المتوازية التي تتواجد وتتطور داخل أبعاد لا ندركها أو نستوعبها بحواسنا وآلاتنا البدائية في الوقت الحاضر لأنها مجهولة وغير محسوسة أو مدركة وغير مرئية، وقد تحتوي في داخلها على حياة تشبه أو تختلف عن الحياة التي نعرفها على الأرض.
فالكون المرئي أو المنظور مليء بالغموض والألغاز التي تمنعنا في الوقت الحاضر من فهم واستيعاب طريقة عمله بدقة ومعرفة بنيته الكاملة. ومن بين المحتويات الأكثر غموضاً بالنسبة للبشر هي الثقوب السوداء Trous Noirsبسبب القوة الهائلة تتواجد بداخلها والتي يعجز مستوانا البشري المحدود إدراكها. فهي وحوش فضائية مفترسة تبتلع كل شيء يتواجد في نطاق محيطها أو يكون سجيناً داخل أفقها وفي إطار حقلها الثقالي الجاذب وهو من القوة بمكان أنه قادر على دعك وتشويه الفضاء أو الزمكان. ولكن ما هو مصير المواد والأشياء والأجسام التي تدخل في بطن الثقب الأسود؟ لا أحد يعرف على وجه الدقة. إن بعض العلماء الفيزيائيين يتخيلون ما يسمونه بتأثير النفق effet tunnel وهو تعبير علمي يفترضون وجوده على الطرف الآخر المقابل لمدخل الثقب الأسود الذي يفترضون أنه مخرج الثقب الأسود ويسمونه الثقب الأبيض Trou Blanc المناقض أو المضاد تناظرياً للثقب الأسود symeacute;triquement Opposeacute; ويفترضون أنه هو الذي يقودنا إلى أكوان أخرى يكون بعضها ربما بحجم كوننا المرئي أو أكبر منه. كما توجد هناك دروب أو ممرات مختصرة قد تتيح الولوج إلى عوالم أو أكوان أخرى قد تكون مأهولة ومسكونة بكائنات وحضارات أخرى. وقد تسلك تلك الكائنات الفضائية المتنقلة بين المجرات والنجوم والكواكب تلك الممرات المختصرة ما بين العوالم النجمية espaces intersideacute;rales وتسمى تلك الممرات الافتراضية بالثقوب الدودية Trous de Ver وبالانجليزي Wormholes وهي موجودة في النسيج الزمكاني Lrsquo;espace-Temps حسب اعتقاد جون ويلرJohn Wheeler سنة 1956. وهي مسالك أو دروب مفترضة للبحث عن الأبعاد الموازية الخفية. لذلك اعتقد بعض العلماء أن بإمكان الحضارات الفضائية المتطورة صنع مثل تلك الثقوب الدودية بطريقة اصطناعية لخلق نوع من البوابات المتعددة الأبعاد portes dimensionnelles للتنقل والوصول إلى أية نقطة أو موضع في الكون دون الحاجة إلى قطع كل تلك المسافات الهائلة المستحيلة في قياساتها التي تفصل بين النجوم والمجرات distances interstellaires. وهي الفكرة التي استلهمها مسلسل الخيال العلمي بوابة النجوم stargaite SG1 حيث يستخدم الأبطال بوابات النجوم potes des Etoiles لاستكشاف الكواكب الأخرى في مجرتنا وفي المجرات الأخرى. ويعتقد عدد من العلماء أنه من أجل إبقاء تلك الثقوب الدودية مفتوحة لكونها عادة غير ثابتة وغير مستقرة dextrement instables لا بد من وجود مادة غريبة exotique مجهولة الماهية ذات قوة نابذة أو طاردة reacute;pulsive تكون ضرورية لإحداث التوازن ولكن لا شيء يدل على وجودها الفعلي كما يقول العالم ستيفن هسو stephen Hsu الباحث في جامعة أوريغون والتي يعتقد أنه لا بد منها نظرياً وحسابياً أو رياضياتياً. وبالتالي لو تمكنت بعض الحضارات الفضائية المتقدمة علمياً وتكنولوجياً وسيطرت على صناعة الممرات أو الثقوب الدودية الاصطناعية فإنها ستتمكن من استخدامها لتزور في لحظات أو وقت محدود أكواناً أخرى ومجرات أخرى وكواكب ونجوم داخل المجرة دون الحاجة لقطع مليارات المليارات من الكيلومترات في الفضاء الخارجي ما بين النجمي وما بين المجري Lrsquo;espace interstellaires et intergalactiques. وكما ذكرنا في حلقات سابقة فإن النماذج الكونية modegrave;les cosmologiques تتيح تخيل فرضيات جريئة فيما يتعلق بالعوالم المتوازية mondes parallegrave;les إحداها يقول، بل يفترض، أن كوننا ليس وحيداً وإنما يوجد عدد لا نهائي من الأكوان التي هي بمثابة استطالات أو أذرع أو امتدادات لكون مطلق أوسع وأشمل ذو أبعاد لانهائية و لا يمكن تخيلها أو حسابها أو قياسها على الإطلاق inimaginables وقد يكون كوننا المرئي المنظور واحد من مليارات المليارات المليارات من الأكوان الوليدة Beacute;beacute; Univers غير الواعية بوجود غيرها والمستقلة بعضها عن البعض الآخر، مما يحفز العقل البشري على البحث عن الكون المطلق الذي سمي بــ Meacute;ta univers.ولقد سبق لعالم الفيزياء والفيلسوف أورليان بارو أن تساءل حول نظرية الأكوان الفقاعات univers bulles في مقال له تحت عنوان هل الأكوان المتعددة موجودة؟ des univers multiples existe-ils vraiment ?:quot; ألا يمكن أن يكون كوننا المرئي المنظور ليس سوى جزء تافه من وجود مطلق في سعته Meacute;ta Monde؟ أو جزء ضئيل لا قيمة له في كون متعدد أوسع وأعقد وأكثر تنوعاً متعدد الأشكال والألوان من النظام المألوف والموصوف الذي يعرضه ويقدمه علماء الفيزياء اليوم؟ وإذا كان يوجد في كوننا المرئي عدد هائل من المجرات والنجوم والكواكب المتنوعة فلماذا لا نفكر أيضاً بإمكانية وجود أكوان أخرى متعددة ومتنوعة وليس كوناً واحداً هو كوننا المرئي أو المنظور؟ قد لا تمتلك هذه الفرضية من المقومات العلمية حالياً تسمح لها بالصمود على المشهد العلمي ولكن لا شيء يمنع من البحث فيها علها تقودنا إلى فيزياء جديدة وعلم كونيات جديد. بعض العلماء تخيل الكون الكبير والشامل أو المطلق على إنه عبارة عن شكل يشبه جبنة الغروير الفرنسية gruyegrave;re sideacute;rale وهي الجبنة المليئة بالثقوب المتداخلة التي يمكن اعتبارها كناية عن أكوان، حيث تستخدم الثقوب السوداء والثقوب الدودية كنقاط انطلاق ووصول للأكوان الفقاعات الأخرى وبهذا المعنى توجد أكوان لامتناهية العدد وربما يوجد من بينها ما هو مأهول بالحياة والحضارات المتقدمة جدا التي لا تعد ولا تحصى وربما يعتقد كل كون أنه الوحيد الذي يوجد دون أن يعرف بوجود الأكوان الأخرى أو العكس أن تكون الحضارات الكونية متطورة إلى درجة أنها تعرف الكثير عن مكونات الكون المطلق الذي هي جزء حيوي منه أي تكون قد سبرت أسرار الكون الكبير Grand Univers أو المطلق ومساراته ومسالكه.
من بين النظريات العلمية التي تتعامل مع إمكانية وجود أكوان أخرى متعددة تتواجد في أبعاد أخرى غير أبعادنا الأربعة المادية أي الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الرابع وهو الزمان، هي نظرية الأوتار الفائقة theacute;orie des super cordes التي تسلط الضوء على المجاج الكونيeacute;cume cosmique.
لقد تم بالفعل التطرق لمفاهيم الكون المتعدد multivers والكون الفقاعة univers bulle في ثنايا نظرية الأوتار الفائقة التي تحاول التوحيد بين اللامتناهي في الصغر Lrsquo;infiniment petit واللامتناهي في الكبر Lrsquo;infiniment grand وهي تستند على فكرة أن الكون مكون من عدد لامتناهي infiniteacute; من الأوتار الكونية حيث يكون بعضها منطوياً على نفسه ككوة الصوف والتي لا يمكن رصدها indeacute;tectable أي إن الأساس الجوهري أو حجر الأساس للكون المرئي هي الأوتار المهتزة ذات الترددات والذبذبات المتنوعة كوتر الآلات الموسيقية الوترية التي تقدم نغمات متنوعة حسب التردد والذبذبة لكل وتر وبالتالي فإن تلك الأوتار تمتلك ضغطاً أو قوة شد كالمطاط. من الصعب على غير المتخصص تخيل هذه الفرضية لذلك لجأ العلماء إلى مثال رغوة الصابون في الحمام bain moussant حيث يمكن للمرء تصور بانيو حمام مليء برغوة الصابون على شكل فقاعات واعتبار البانيو على إنه الكون الكبير grand univers أو المطلق وحيث كل فقاعة فيه تمثل كوناً قائماً بذاته ككوننا المرئي تديره وتسيره وتحكمه قوانينه الفيزيائية الخاصة به وباستقلالية تامة عن الفقاعات الأكوان الأخرى الموجودة في ذلك المجاج الكوني. ولو ثبتت صحة وصلاحية نظرية الأوتار الفائقة في المستقبل فسوف يكون من الطبيعي افتراض وجود مليارات الأكوان التي تتواجد جنباً إلى جنب أو بموازاة بعضها البعض أو المتداخلة في بعضها البعض ومع كوننا المرئي بالطبع، مثلما توجد مليارات العوالم الخفية داخل كوننا لا تعرف أنها لا تشكل سوى قطعة أو شظية تكوينية لا قيمة لها من الكل الأشمل والأكمل لمجموع المكونات في هيكيلية وبنية الكون المطلق.
كما إن هذه الفرضية تسمح لنا أيضا الافتراض وجود حياة داخل عدد لا متناهي من الأكوان ولكن بخصائص وسمات وماهيات فيزيائية وكيميائية وبيولوجية وزمكانية مختلفة كثيراً عما يوجد في كوننا المرئي. فنظرية الأوتار الفائقة تقترح وجود 10 أو 11 أو 26 بعداً زمكانياً حسب المعادلات الرياضياتية المواكبة لها وحدث أن أحدها تميز بأبعاد أربعة ثلاثة مكانية tridimensionnel ورابع زماني ولهذا السبب فإن مداركنا كبشر محدودة جداً مثل السمكة في حوض المياه في مثال ميشيو كاكو وبالتالي ليس بمقدورنا فهم واستيعاب وجود تلك الأكوان والعوالم المتوازية التي ربما قد تكون مسكونة أو مأهولة بالمخلوقات والكائنات المتنوعة حسب ما اعترف به العالم الفذ ستيفن هوكينغ Stephen Hawking. وهكذا فإن التأملات الحالية عن الكون المعاصر تتيح المجال لتصور وجود عوالم وأكوان متعددة بيد أننا لا نستطيع بوسائلنا الرصدية البدائية الحالي رصدها والتي قد تحتوي على أنماط أخرى من الحياة العاقلة الذكية والمتطورة لكنها غير مبنية على عنصر الكاربون كما هو الحال عند البشر وقد يكون الجماد والمعادن هي العناصر الحية والعناصر العضوية هي الجامدة عكس ما يوجد على الأرض وفي هذا السياق أكد كاتب الخيال العلمي هنري توتيف Henri Totev وجود كوكب توأم لكوكبنا الأرض لكنه غير مرئي ومكون من المادة المضادة antimatiegrave;re ولا يمكننا زيارته إلا من خلال وسائل السفر النجمية، ويعتقد أن تطور الحياة على الكوكب التوأم لكوكب الأرض حدث على غرار التطور الذي حصل في الأرض حيث تنشأ حضارات وتندثر وتظهر غيرها وتتلاقح وتلتقي وتتصارع ولكن ليس بمقدورنا في الوقت الحاضر صنع مركبات يمكنها بلوغ الكوكب التوأم، وإن العوالم الموازية هي بمثابة نيغاتيف الصورة أو نيغاتيف البطارية الذي يجهل وجود نقيضة الموجب البوزتيف. يتخيل هنري توتيف الحياة على الكوكب التوأم أنها تشبه إلى حد بعيد الحياة على الأرض فالسكان يشبهوننا فيزيائياً ومستوى تطورهم العلمي والتقني والنفسي مقارب لتطورنا على الأرض لكنهم لا يتحدثون نفس اللغات الأرضية وشمسهم مختلفة عن شمسنا والطبيعة هناك قد تتخذ ألواناً أخرى والأيام ليست بطول الأيام الأرضية. قد تقع أحداث كونية استثنائية بسبب خلل وقتي في المعايير بين العلمين التوأمين فتنزلق بعض محتويات أحدهما نحو الآخر وهذا ما يفسر الاختفاء المفاجيء والفوري الغامض من على سطح الأرض أو المحيط أو الأجواء الأرضية لبعض السفن والطائرات والأشياء والأشخاص كما هو الحال في مثلث برمودا أو أماكن أخرى عندما يحدث ضعف في القطبية والمغناطيسية الأرضية في نفس وقت حدوثها في العالم الموازي حيث يحصل اتصال مختصر للحظات بين العالمين عبر ثغرة فورتكس vortex زمكانية واثناء ذلك تتمكن كينونات من التمثل فيزيائياً ومادياً والتجسد داخل عالمنا الفيزيائي المادي رغم اختلاف الشحنات.
وكذلك الحال مع الكون التوأم الذي يمكن أن يكون عبارة عن مرآة عاكسة لكوننا المرئي تعيش فيه كائنات ومخلوقات فضائية. وكان هذا الافتراض موضع اهتمام ودراسة بعض العلماء من أمثال فابريس كرشير Fabrice Kircher ودومنيك بيكر Dominique Becker في كتابهما المثير للجدل: quot; هل المخلوقات الفضائية تأتي من العالم المضاد؟ Extraterrestres viennent-ils de lrsquo;antimonde ? تحدثا فيه عن كون غير مرئي أو معتم univers sombre ou invisible يمتلك خصائص معاكس لخصائص وماهيات عالم الأرض حيث اتجاه الزمن أو سهم الزمن معكوساً يتجه من المستقبل إلى الماضي وبالتالي فإن الكائنات الحية التي تعيش فيه تولد بالغة ثم تسير مع مرور الزمن إلى مرحلة الطفولة والنطفة والخلية الأولى وبعدها مستوى الذرة قبل الاختفاء الكامل حتى إن بعض واسعي الخيال اعتبروا إن ذلك هو أحد دوافع ومحفزات المخلوقات الفضائية القادمة من العالم المضاد إلى الأرض بغية إيجاد وسائل لإدامة فترة حياتهم باكتساب سنوات إضافية. ولقد سبق لعالم الفيزياء السوفيتي الحائز على جائزة نوبل أندريه زاخاروف Andrei Sakharov أن قدم سنة 1967 نظرية وجود كون موازي مكون من المادة المضادة بصورة متناظرة symeacute;trique وهي التي طغت على المادة في الكون التوأم عكس ما حصل في كوننا المرئي المادي حيث يكون اتجاه الزمن ايضاً معاكساً هندسياً لاتجاه الزمن في كوننا ويترتب على ذلك العديد من الأمور المعكوسة مثل يجب الركض للبقاء في مكانك وأن يكون المرء واقفاً وغير متحرك للتنقل من كان لآخر وهو أمر يشبه عالم العبث في رواية آليس في بلاد العجائب للويس كارول Lewis Caroll حيث ضرب بعض الفيزيائيين مثال آليس Alice لشرح كون المادة المضادة Lrsquo;univers drsquo;antimatiegrave;re. هناك إذن أكثر من نسخة للكون النقيض أو المضاد والمادة النقيضة أو المادة المضادة فى الكون المطلق.. وفي المختبر تعتبر المادة المضادة أكثر المواد تكلفة في الوجود، بتكلفة تقدر ب25 مليار دولار للغرام الواحد من البوزيترون positron و 62.5 تريليون دولار للغرام الواحد من الهيدروجين المضاد وذلك لأن الإنتاج أمر صعب (يتم أنتاج بروتونات مضادة قليلة فقط في ردود الفعل في معجل أو مسرع جسيمات)، ولأن هناك زيادة في الطلب على الاستخدامات الأخرى لمسرعات الجسيمات. وفقا لمسرع الجسيمات التابع لسيرن، قد تكلف بضعة ملايين اليورو لإنتاج حوالي 1 على مليار من الغرام، وهي الكمية المستخدمة حتى الآن للجسيمات.
في عام 1928 تنبأ الفيزيائي العالم البريطاني ديريك بوجود المادة المضادة، وقال إن لكل جسيم من المادة العادية جسيما مضادا ذا كتلة مساوية لكتلة الجسيم ولكنه يحمل شحنة كهربائية معاكسة أو مختلفة الإشارة. ويمكن أن تتجمع الجسيمات المضادة لتشكل ذرة مضادة، وتتجمع الذرات المضادة لتشكل أشياء مقابلة لكل شيء موجود في الكون: نجوما مضادة ومجرات مضادة وحتى بشرا مضادين. وعندما يصطدم جسيم بجسيمه المضاد يفنى كلاهما وتنطلق أشعة گاما عالية الطاقة. فلو تصافح إنسان وإنسان مضاد فإن الانفجار الحاصل سيكافئ ألف انفجار نووي قوته ميگاطن يكفي الواحد منها لتدمير مدينة صغيرة..
ولم تمض أربع سنوات على تنبؤ ديريك العجيب حتى اكتشف أندرسون (من معهد كاليفورنيا للتقانة) أول جسيم مضاد. وخلال استخدام أندرسون الغرفة السحابية (الغيمية) لدراسة الأشعة الكونية وهي جسيمات عالية الطاقة واردة إلى الأرض من الفضاء الخارجي لاحظ وجود أثر من البخار أحدثه جسيم له كتلة الإلكترون وعكس شحنته (أي موجب الشحنة). أطلق على هذا الجسيم المضاد للإلكترون اسم البوزيترون. أما العثور على البروتونات المضادة فكان أمرا محيرا، ولم يتحقق إلا عام 1955 عندما شُكِّلت هذه الجسيمات باستعمال مسرّع (معجل) الجسيمات في مختبر لورانس بيركلي. كما استطاع المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات في العام نفسه تركيب ذرات الهيدروجين المضادة فترة من الزمن بدمج البوزيترونات والبروتونات المضادة في مسرع للجسيمات.
وفي السنوات الأخيرة بنى العلماء مختبرات كاشفة معقدة للبحث عن المادة المضادة في الأشعة الكونية. ولما كانت جسيمات هذه الأشعة تتفكك نتيجة اصطدامها بنويات جزيئات الهواء فقد رفع الباحثون مكاشيفهم إلى طبقات الغلاف الجوي العليا حيث تقل الكثافة إلى أدناها. والأوربيون يشاركون في إحدى هذه التجارب واسمها مقراب (تلسكوب) المادة المضادة عالية الطاقة: وهو مقراب محمول على مناطيد عالية الارتفاع للكشف عن البوزيترونات في الأشعة الكونية. وهناك مكاشيف أخرى محمولة تستطيع رصد البروتونات المضادة، وثمة مشاريع أخرى قيد الدرس تطمح إلى وضع المناطيد والمكاشيف على مدارات في الفضاء. وقد تمدنا نتائج هذه التجارب بمعلومات كثيرة عن مصادر المادة والمادة المضادة، وقد تمدنا بمعلومات عما إذا كانت النجوم المضادة والمجرات المضادة موجودة فعلا أم لا.
يعتقد الفيزيائيون الفلكيون أن القسم الأعظم من المادة المضادة المرصودة في الأجواء العليا ناتج من الاصطدامات العنيفة للجسيمات تحت الذرية في الفضاء بين النجمي. تبدأ هذه السيرورة على النحو التالي: عندما ينفجر المستعر الأعظم فإن الحقول المغنطيسية الموجودة في موجة الصدمة تُسرّع البروتون (أو نواة الذرة الأثقل) بين النجمي وتحوله إلى شعاع كوني عالي الطاقة عالي السرعة. وعندما يصطدم الشعاع الكوني بجسيم ما في الفضاء بين النجمي يتحول جزء من هذه الطاقة العالية إلى زوج من جسيم وجسيم مضاد.
لا يمكن للمادة المضادة الجوالة أن تقطع مسافة طويلة في اتجاه ما، حتى ولو كانت خطوط الحقل المغنطيسي تربط بين المجرات المتجاورة. يتحرك الجسيم المضاد على مسار حلزوني حول خطوط الحقل بين المجراتي ويقفز عشوائيا من مجرة إلى أخرى.
أما إذا كانت الحقول المغنطيسية بين المجرّاتية متسقة فقد تمتد خطوط الحقل على استقامة واحدة من مجرة إلى أخرى. وستجري الجسيمات المضادة عندئذ وكأنها في أقماع على طرق طولها ملايين السنين الضوئية. وحتى في هذه الحالة فلن تسير الجسيمات على الخطوط مستقيمة بل ستثب من مجرة إلى أخرى، تماما كما لو أن رجلنا الثمل الهائم قد اقتيد من زاوية شارع إلى الزاوية الأخرى ثم تُرك وحده ليتحرك عشوائيا في المفارق دون إحراز تقدم يذكر. وهكذا فلن تقطع الجسيمات المضادة أكثر من بضع مئات ملايين السنين الضوئية بدءا من نقطة انطلاقها حتى ولو أعطيت كل عمر الكون للقيام برحلتها. وهذه المسافة أقل بكثير من مليارات السنين الضوئية التي تفصلها عن أقرب المجرات المضادة المجاورة.
وحتى لو استطاع جسيم مضاد مثابرة الاقتراب من مجرتنا، ولو بمعجزة، فقد لا يستطيع الوصول إلى الأرض. ذلك أن الحقل المغنطيسي داخل المجرة أقوى بكثير مما هو عليه خارجها، وسيعطف أغلب الجسيمات المضادة نحو الداخل. يتبع
التعليقات