كانت نهاية الحرب العالمية الأولى بالشروط التي انتهت بها في الحقيقة بداية حرب عالمية ثانية بصورة أضخم وأشد تعقيدا وفتكا من الأولى. فما أن وضعت دول الحلفاء شروطها التأديبية ضد دول المحور ومنهم ألمانيا المنهزمة في الحرب , حتى بدأ السباق المحموم من أجل كسر تلك القيود والإرث التاريخي الثقيل وقد تزامن هذا مع بروز ثلة من الأنظمة الديكتاتورية في أوروبا واسيا ومنها النظام الألماني النازي والنظام الروسي الفاشي والنظام الصيني الشمولي. كانت فترة الهدنة القصيرة جدا مناسبة من أجل لم الجراح والاستعداد للثأر واستعادة الأمجاد في وقت كان فيه هتلر يحوّل ألمانيا إلى ثكنة عسكرية ومصنع للأسلحة بجميع أنواعها. وجاءت لحظة الحسم وذلك باجتياح هتلر لبولندا في حفل لاستعراض القوة ضد الخصوم التاريخيين وفي واحدة من أفظع الأخطاء السياسية التي أشعلت نار الحرب. لم يمضي وقت قصير حتى جاء الرد البريطاني الفرنسي ضد ألمانيا ثم تبعه الإعلان الياباني الألماني الحرب ضد روسيا والولايات المتحدة الأمريكية معا , وكانت الكارثة الإنسانية الأبشع في تاريخ البشرية. لقد كانت إفرازات انهيار الإتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين وبالتالي تبدد الأطروحة الاشتراكية في العديد من مناطق النفوذ وبالمقابل ظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عسكرية وسياسية عالمية والتي تمثل الأطروحة الرأسمالية الجديدة , كانت لهذه الظروف مجتمعة نتائج سياسية سلبية جعلت القرار الدولي منقسم إلى قطبيين لكل واحد منهما حلفائه الدائمين ولكل منهما مصالحه الإستراتيجية الدائمة. الداعمون لنظام تعدد الأقطاب الناشئ هذا يرون فيه مجالا حيويا إيجابيا من أجل دعم الديمقراطية والتعددية السياسية وتفادي الاستبداد الأحادي , فيما المخالفون نظروا له كعائق ضد تحقيق السلم الدولي. وأيا كانت حجج المنقسمين حيال طبيعة النظام الدولي الجديد , فإن الأحداث والقرارات السياسية التي شهدتها وأصدرتها الهيئة الأممية الجديدة لم تستطع أن تنفك من الخلفيات التاريخية لما بعد الحرب وبالتالي لم تستطع أن تفك الرهان مع حساسية الصراع الأيديولوجي والهيمنة على القرار السياسي الدولي. منذ قرار تهجير اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة إسرائيل في قلب الشرق الأوسط ndash; وهو بالمناسبة من أفضع الأخطاء السياسية الدولية الذي تزامن صدوره مع تشكيل هيئة الأمم المتحدة ndash; ومناطق النزاع الدولي في مناطق النفوذ المشتركة بين القطبيين الأمريكي والروسي في غليان مستمر وفي حروب مستمرة مازالت تحصد أرواح الأبرياء وهي قرابين تدفع ثمن الصراع الدولي الرهيب. سلسلة الحروب التي وقعت فيما بعد في منطقة الشرق الأوسط وحدها ndash; الحرب العربية الإسرائيلية والحرب اللبنانية الإسرائيلية وحرب الخليج والحرب في العراق وأفغانستان وسوريا ndash; كلها كانت حروب بالوكالة لعبت فيه الأطراف القطبية الدولية دور المحرك الرئيسي سيما وأن هذه المنطقة تشكل مصدر الثراء الاقتصادي والنفوذ السياسي للدول العظمى. مع ظهور ثورات الربيع العربي(2011), توالت الاحتجاجات الشعبية العارمة في معظم أرجاء دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا في واحدة من أرقى أشكال الغضب الشعبي ضد الأنظمة السياسية اللاديمقراطية التي حكمت المنطقة بفعل سلطة الجيش وليس بفعل سلطة صناديق الاقتراع. لقد أربكت هذه الثورات فعليا حسابات الدول العظمى وجعلت شعوب المنطقة الشابة تسترجع أنفاسها بعد عقود من القهر الاجتماعي والفساد الاقتصادي , حتى اقتنعت جموع المتظاهرين أن أسطورة المؤامرة بدأت تتبدد وأن إمكانية تقرير المصير الذاتي أصبح أمرا فرديا تتحكم فيه إرادة الشعوب وقوة حراكها السلمي الفعال. هذا الأمر بدأ فعلا يتجذر في أدبيات الثوار والتكتلات السياسية الشبابية التي أفرز حراكها السلمي سقوط العديد من رموز الأنظمة السياسية الموالية لأحد الأقطاب الدولية لما بعد الحرب. لكن هذا الشعور سرعان ما اندثر وظهر للعيان الدور الذي تلعبه التحالفات الدولية في توجيه اختيارات الشعوب ومصائرهم لصالح قوى مناوئة تُنعث بأصحاب quot;الثورة المضادةquot; والتي تُمول بسلطة المال والقوة, ولقد كان الانقلاب العسكري في مصر إحدى أهم هذه الخطط المضادة لاختيارات الشعوب نحو الديمقراطية. إرهاصات الثورات المضادة بدأت منذ الثورة الليبية والتي عرفت تدخل الحلف الأطلسي العسكري من أجل تدمير نظام القذافي العسكري المناوئ تاريخيا لأي تدخل أمريكي في منطقة شمال افريقيا. شكل هذا التدخل ضربة قوية لروسيا وهي الحليف الاستراتيجي لليبيا بعد أن تمت قولبتها من طرف أمريكا وحلفائها بأن التدخل العسكري سيختصر على إغلاق الأجواء الجوية ضد الطيران الليبي الذي يقصف الأبرياء بالسلاح الجوي العسكري , ولكن الحلف دمر جميع الترسانة العسكرية الليبية وسمح للثوار بالتغلغل والتوسع على الأرض واغتيال القذافي ونظامه الاستبدادي. من هنا بدأ السباق التاريخي ndash; والذي نعته البعض بالحرب الباردة الجديدة ndash; بين القطبيين التاريخيين وهو السباق نحو الحفاظ على الأسواق الاستراتيجية وعلى اسطورة الهيمنة التاريخية. ولقد كانت الحرب السورية إحدى أفظع المعارك ndash; ومازالت ndash; المضادة لإرادة الثورة السلمية الأصلية والتي لعبت فيها روسيا إلى جانب ايران وحزب الله من جهة وإسرائيل وأمريكا وحلفائهم من جهة ثانية دورا كبيرا في تحويل البلد إلى معترك ميداني فضيع استخدمت فيه جميع الأسلحة الفتاكة. الآن وقد ثبت للعيان من يتاجر في الشعوب واختياراتهم وفي حرياتهم ومستقبلهم سواء وطنيا أو اقليميا أو دوليا , فعل الشعوب التواقة للحرية الفعلية أن تستحضر اصحاب الثورات المضادة وأساليبهم وخططهم بالقدر نفسه الذي يجب عليها أن تستجمع قواها ونشاطاتها الديمقراطية من أجل تحديث آليات العمل المدني الفعال ضد توجيهات القادة السياسيين الخارجية. المجتمع المدني القوي وبإيعاز من الأساليب الديمقراطية المؤسساتية القوية وحده قادر على توجيه اراداته السلمية والتحررية نحو العيش في سلام جنبا إلى جنب مع جل أطراف المنتظم الدولي. ولقد ابان الشارع البريطاني عن هذا التوجه الجديد الذي يبعث بالأمل حينما ضغط ضد استصدار قرار التدخل العسكري في سوريا من طرف مجلس العموم البريطاني.
وبالمثل, فقد كانت نهاية الحرب العالمية الثانية بالنتائج التي انتهت بها ndash; نتائج الحرب ndash; بداية حروب إقليمية جديدة ومعقدة مازالت معلقة في دواليب المؤتمرات الدولية وفي أجندات المؤسسات الدولية غير القادرة تنظيميا وسياسيا على ايجاد حلول لها إلى الآن. فلقد اجتمعت جل الدول المشاركة في الحرب وعددها حوالي خمسين دولة في مؤتمر سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1945 لبحث امكانية تشكيل هيئة أممية عالمية يتوافق عليها الجميع ويحتكمون لقراراتها من أجل ضبط وفض الصراعات الدولية ونشر السلم الدولي ونشر الحريات والديمقراطية ودعم حقوق الإنسان وحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والغذائية العالمية. وكانت النتيجة أن تم تشكيل هيئة الأمم المتحدة بمؤسساتها الخمسة وأبرزها مجلس الأمن المكون من أعضاء دائمين وهم فرنسا وروسيا وأمريكا وبريطانيا والصين وأعضاء غير دائمين يمثلون بقية دول العالم. الامتياز الذي حظيت به الدول الدائمة كقوى عالمية ضاغطة في العلاقات الدولية داخل هذه المؤسسة تقوّى بفعل امتلاكها لحق quot; الفيثوquot; وهو السلاح التنظيمي الفتاك الذي يعرقل التوافق والسلم الدوليين منذ تشكيل هذه الهيئة.
- آخر تحديث :
التعليقات