تمر اليوم الذكرى الثالثة لواحدة من أسوأ المذابح التي ارتكبت بحق المسيحيين في مصر في العقود الأخيرة. نعم، ثلاث سنوات طويلة ومريرة مرت على مذبحة كنيسة القديسين بالإسكندرية التي راح ضحيتها ما يزيد عن ثلاثين شهيداً والعشرات من المصابين. لم تكن مذبحة القديسين عملاً إرهابياً ككل الأعمال الإرهابية التي يتعرض لها المسيحيون في معظم البلدان الإسلامية. كانت المذبحة عملاً ذا أبعاد خاصة ارتبط بالظروف التاريخية التي كانت تمر بها مصر عندئذ، إذ لعبت المذبحة دور البطولة في تعبئة المسيحيين ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك. كانت ثورة الأقباط بعد المذبحة حدثاً تاريخياً بكل المقاييس. كانت المرة الأولى التي يثور فيها المسيحيون على نظام حاكم في التاريخ المصري الحديث. وقد أثبتت الأحداث أن مذبحة كنيسة القديسين كانت من أهم الأحداث التي قادت إلى سقوط نظام مبارك بعد ستة أسابيع فقط من المذبحة.

بعد وقوع المذبحة روّج الكثيرون لشائعات مفادها أن نظام مبارك ارتكب الجريمة. سعى المروجون لتوثيق شائعاتهم بوثائق مزورة قيل أنها صادرة عن سفارات أو هيئات أجنبية. انتشرت الشائعات بين المصريين كما تنتشر النار في الهشيم. لم تعد هناك وسيلة لوقفها أو مواجهتها سواء من النظام أو من المحللين المحايدين المتابعين للأحداث في مصر. أذكر أنني كتبت وقتها أفند الشائعات موضحاً أنه لا توجد دلائل على ارتكاب نظام مبارك للجريمة. كانت هناك ثلاثة أسباب منطقية، يقبلها العقل، تؤكد عدم ضلوع النظام في المذبحة، السبب الأول: عدم وجود مصلحة لنظام مبارك في كسب عداوة الأقباط. السبب الثاني: لو أن النظام ارتكب الجريمة لكان لفّقَها على التو لجهة ثالثة، وهو ما لم يحدث. السبب الثالث: رغم انتهاكات النظام لمباديء حقوق الإنسان، إلا أنه من الإنصاف القول أنه لم يُعْرَف بارتكاب المذابح.

من المؤكد أن الأقباط عانوا الأمرين عندما كان مبارك في السلطة، وصحيح أيضاً أن علاقة النظام بالقيادات الديني القبطية لم تكن على وتيرة واحدة وشهدت تذببات كثيرة، ولكن كان القبول بضلوع النظام في مذبحة كنيسة القديسين أمراً مستبعداً تماماً للأسباب المذكورة. كانت مشاكل الأقباط مع النظام تتلخص في البيروقراطية في منح تصاريح بناء وترميم الكنائس، وتسامح النظام مع مرتكبي الجرائم ضد الأقباط، عدم التعامل بحزم مع مختطفي الفتيات القبطيات، فضلاً عن السماح للجماعات الإسلامية بأسلمة كافة مظاهر الحياة في المجتمع المصري.

كان البابا الراحل شنوده الثالث يردد باستمرار أن مشاكل الأقباط لا يتحمل مسئوليتها من هم على قمة السلطة بل موظفون وضباط ومسئولون محليون صغار. لم يكن مبارك شخصاً متطرفاً ولم تكن لديه عقدة مع الأقباط، كما كان سلفه أنور السادات، ولكنه في سنواته الأخيرة وقع فريسة مجموعة من الضغوط، داخلية مارسها الشارع الإسلامي وخارجية مارسها الغرب ومنظمات حقوق الإنسان. كبلت الضغوط يدي مبارك وقيدت بشكل كبير من حريته في اتخاذ القرار. ورغم كل المتاعب التي تعرض لها الأقباط ارتبط البابا شنوده بمبارك بعلاقة عمل لا بأس بها. كان البابا يرى في نظام مبارك حائط صد أمام وصول الإسلاميين للسلطة، ولذا سعى البابا للحافظ على علاقته بمبارك. في المقابل كانت هناك مؤشرات أن مبارك يريد أن يراعي البابا. وقد فعل كلما استطاع الإفلات من ضغوط الشارع الإسلامي، وهي حالات نادرة.

القليل من التدقيق والموضوعية كان كافياً لإدراك أن هناك مستفيدين من المذبحة وأن هناك مستفيدين من إلصاق التهمة بالنظام. الطرف الوحيد الذي اعتقدت ومازلت أعتقد أنه الذي استفاد من مذبحة كنيسة القديسين كان جماعة الإخوان المسلمين. كان واضحاً أن الجهاز الإعلامي للجماعة وراء الشائعات بمسئولية مبارك عن المذبحة. كما كان قادة الجماعة هم من استخدموا الشائعات لتهييج الأقباط ضد نظام مبارك.

لعبت الشائعات دوراً خطيراً في المخطط الإخواني لإشعال ثورة تسقط نظام مبارك. كان الإخوان يسعون لتوحيد الشعب المصري ضد مبارك. أراد الإخوان ضم الأقباط للثورة حتى تظهر للعالم على أنها إجماع شعبي على المطالبة برحيل مبارك. ولكن الشكوك ساورت قادة الجماعة بشأن حصولهم على دعم الأقباط كانوا يتخوفون من التغيير وفضلوا الابتعاد عن العمل السياسي نتيجة التهميش الذي تعرضوا له على مدار العقود الستة الماضية. كان الحل الذي تفتق عنه فكر قادة الإخوان هو الصاق المذبحة بنظام مبارك. استغل الإخوان بعض التوتر الذي ساد علاقة النظام بالأقباط نتيجة أحداث العمرانية التي شهدت مظاهرات حاشدة للأقباط بعد اقتحام قوات الأمن كنيسة تحت الإنشاء لم تحصل على ترخيص واعتدائها على المصلين بها. اعتقد الإخوان أن التوتر في العلاقة سيساعد في أن يصدق الأقباط قيام النظام بالمذبحة. وقد نجحت تماماً خطط قادة الإخوان، إذ صدّق الأقباط الشائعات وانضموا لتظاهرات يناير التي أفضت إلى رحيل مبارك.

لم يفطن المصريون لمؤامرة الإخوان حينها، ولكنهم اليوم أدركوا أن الجماعة هي أصل كل الشرور ومنبع كل المصائب التي حلت بمصر منذ مطلع عام 2011. اليوم وبعد أن أثبتت الأحداث مؤامرة الإخوان ضد مصر في يناير 2011، فقد بدأ الكثيرون من المصريين في مراجعة أنفسهم وفي إعطاء كل ذي حق حقه. أدرك المصريون بصفة عامة والأقباط بصفة خاصة أن إلصاق تهمة مذبحة كنيسة القديسين بنظام مبارك لم تكن إلا شائعات مغرضة هدفها إبعاد الأنظار عن الجاني الحقيقي. ولعل الوقت قد حان لعودة التحقيقات في المذبحة للكشف عن مرتكب الجريمة وعن المخطط لها وعن كل من كانت له يد بها. وإذا كان الإخوان استفادوا من المذبحة والشائعات التي أطلقوها بشأن المذبحة، فمن المهم هنا أن تبين التحقيقات ما إذا كان للإخوان دور في التخطيط لها أو تنفيذها.

بقي أن أوجه التحية لأرواح شهداء مذبحة كنيسة القديسين ومصابيها. التحية لهم ولكل من راح ضحية غدر وخيانة الإخوان على مدار السنوات الثلاث الماضية. وكل عام وأنتم بخير بمناسبة العام الجديد الذي أرجو أن يشهد عودة الاستقرار إلى مصر.

[email protected]