مع انطلاق جلسات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي لمحاكمة المتهمين غيابياً في جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بعد تسع سنوات على العملية، التي هزت العالم وغيرت من مسار الأحداث اللبنانية والشرق الأوسطية، وغيرها من عمليات الاغتيال الأخرى التي أعقبتها واستهدفت شخصيات وطنية مرموقة، يدخل لبنان في مرحلة مفصلية يأمل اللبنانيون خلالها أن تكون عنواناً لزمن العدالة ووقف الجريمة السياسية التي نالت من لبنان على مدى أكثر من ثلاثة عقود دون حسيب أو رقيب.

في القراءة العملية لهذا الحدث التاريخي، يراود اللبنانيين للمرة الأولى الشعور بقربهم من تحديد المسؤولية عن المتورطين في عملية اغتيال الحريري وغيره من الاغتيالات، لا سيما مع الجدية والدقة في المعلومات والأدلة التي كشف عنها فريق الادعاء في المحكمة خلال الجلسة الأولى، والتي تمحورت حول كيفية تنفيذ عملية قتل الحريري من ألفها إلى يائها، طبعاً مع الأخذ بعين الاعتبار أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه يدور حول مدى فعالية هذه المحكمة الدولية مع رفض الطرف المتهم وهو quot;حزب اللهquot; الاعتراف بها وتسليم المتهمين الأربعة المنتمين إليه، والذين تدور الاتهامات حولهم، وإعلان أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله أن هؤلاء الأربعة لن يتم تسليمهم للمحكمة ولو بعد ثلاثمئة عام. فهل الحزب قادر فعلاً على الاستمرار بإدارة ظهره للمحكمة الدولية، وماذا عن تجارب المحاكمات الدولية بهذا الخصوص؟

في تجربة المحاكم الدولية التي شكلت في كل من يوغوسلافيا ورواندا وغيرها من دول العالم لمحاكمة متورطين بجرائم حرب، تشير مجريات المحاكمات فيها إلى أنها استطاعت الوصول إلى نتائج ملموسة رغم محاولة الأطراف المدانة في التملص منها والتقليل من أهميتها، وكذلك بغض النظر عن الانقسام السياسي الذي شهدته تلك البلدان حينها، وهو ما ينطبق على حالة لبنان اليوم، فضلاً عن عوامل أخرى لم تفلح في وقف سير تلك المحاكمات. إذا لا جدوى من quot;تطنيشquot; محكمة لبنان تحت أي حجج وذرائع.

ماذا عن القراءة السياسية اللبنانية لانطلاق عمل المحكمة؟

لطالما كان المكان الأنسب لسعد الحريري، نجل الرئيس الراحل والذي ورث تاريخاً سياسياً كبيراً عن والده، الجلوس في قاعة المحكمة الدولية إلى جانب ذوي ضحايا الاغتيالات لمحاكمة المتهمين بالقتل قبل الدخول معهم في اللعبة السياسية الداخلية والذهاب إلى دمشق لمصافحة المتهم بإصدار أوامر القتل، فهذا ما كان يصبوا إليه جمهور فريق الرابع عشر من آذار على وجه العموم، ورفيق الحريري خصوصاً.

فالرهان على التعايش القسري مع هذه الأطراف أثبت فشله في وقف الجريمة السياسية وتحقيق الاستقرار والوحدة الوطنية في هذا البلد كما أوحي لسعد الحريري وغيره من اللبنانيين، وهو ما يؤكده استمرار عمليات الاغتيال والانقسام السياسي والوطني الحاد بعد عام ألفين وخمسة والذي لم يشهد له لبنان مثيلاً في تاريخه، حيث أن هذا الانقسام ما زال مستمراً إلى يومنا هذا من دون أن تنفع quot;الترقيعاتquot; الداخلية والخارجية في إنهائه، لا بل أصبح أخذ اتجاهاً اكثر خطورة في المرحلة الراهنة بعد اندلاع الأزمة السورية وتورط أطراف لبنانية فيها.

مما لا شك فيه أن العدالة القادمة من العاصمة الهولندية بدل أن تكون من بيروت للأسف، وحدها القادرة على تصويب مسار الحياة السياسية اللبنانية وإبعاد شبح الاقتتال الداخلي عنه. هذه العدالة هي من ستؤسس للبنان جديد خال من إرهاب سياسي كان الهدف منه تصفية الخصوم وإحكام القبضة السياسية والأمنية على البلاد والعباد، ضارباً بعرض الحائط الدستور والميثاق الوطني، فلا استقرار من دون عدالة تحاسب المتورطين في جميع الاغتيالات التي شهدها لبنان.

التاريخ أثبت أن القتل لتحقيق غايات سياسية لا يورث إلاّ المزيد من القتل، ومهما حاولت الأطراف المتضررة من بدء عمل المحكمة الدولية التشويش عليها والإيحاء لجمهورها بأن الهدف منها استهداف طائفة بعينها، فإن ذلك لن يفلح في وقت قطار العدالة. صحيح أن مسار الوصول إلى الحقيقة قد يطول ويأخذ سنوات، لكنه لا مفر منه، والمستفيد الأول من تحقيق العدالة هو لبنان بكل أبنائه وطوائفه، فالقاتل أياً كان لا دين له ولا طائفة.

صحافي لبناني