في ازمات العراق منذ تاسيسه عام 1921 لم يسقط البلد في خضم المشاكل والحقد المتراكم، بل كان لسقوط مثقفيه دوي اكبر. فعندما نقول هوية وطنية، الم يسأل مثقفيه من يشيع تلك الهوية، وهل يكفي ان يكون اسم صاحب البار ابو جورج وصاحب التاكسي كه كه حمه وصاحب البقالة حمد في بعض الاعمال الدرامية لصنع ثقافة وطنية حقا. الم يكن مطلوبا الخوض عميقا في ثقافة وتقاليد وعاددات المكونات وتقديمها للجميع. يا ترى كم عراقي يعرف عن الشعراء الاشوريين والرواة الكورد والمؤلفين التركمان. كم عراقي يعرف عن مأساة الاشوريين في 1933 والتي لم تحض بتعاطف من اي مثقف عراقي عربي، او عن ماساة اليهود وعمليه تهجيرهم البشعة والفرهود، كم عراقي يعرف حقا عن مأساة الانفال وحلبجة وقرية البشير وعن تهجير عشرات الالاف من الشيعة العرب والكورد واشوريين وارمن بحجة عدم عراقيتهم. كم عراقي يعرف حقا عن مخاوف السنة. سنجد اننا نحصد في الفراغ، منجلنا لن ياتي باي قبضة لا من الحنطة ولا الشعير، لانه حقا لا يوجد اي شئ. فالتغني بالوطنية وبالاخوة يتهدم عند اول مشكلة نصادفها، ويبداء السياسين الرمي بالتخوين يلحقهم المثقفين بالتصفيق.

في كل ازمة وبدلا من ان يصطف المثقفين لتوضيح مخاوف الاخر، وشرح الجوانب الغير المرئية لدى الناظر، ومحاولة تقريب المختلفين الى بعضهو البعض، ليتمكنوا من استنباط الحلول الناجعة للمشاكل التي تعصف ببلدهم وبهم. نرى المثقفين العراقين اول المتسارعين للاصطفاط الايديولوجي والقومي والطائفي.

هذا هو حال غالبية المثقفين العراقيين اليوم، انهم يصفقون مع طوائفهم واحزابهم وقومياتهم، وكل يريد العراق كما يتصوره مكونه فقط. انهم يحتشدون مع المحتشدون، ويصفقون مع المصفقون، معلنين خوفهم على طائفتهم. هل حقا لنا وطن، وبالتالي مواطنين ام انه شعار في سوق الشعارات؟، والا ليقل لنا المثقفون كيف يبنى الوطن وهناك فئة تشعر فيه بالظلم والاضظهاد او بالخوف والتهميش. كيف يقبل المثقفين على انفسهم المشاركة في لعبة قذرة غايتها الانتقاص من الاخر بسبب قوميته او دينه او طائفته، الى اي درك تكون تلك الثقافة قد انحدرت؟. لو كنا حقا ابناء وطن واحد، ولو كنا حقا مرعوبين من ممارسات صدام التي الجمت السننا، الم يكن مطلوبا من المثقفين الكورد والشيعة والاشوريين والتركمان، تطمين اخوتهم من مثقفي السنة والعمل لعدم تهميش اي شخص بسبب سنيته، الم يكن من الواجب اشعارهم بانهم اخوة حقا؟ وليس ما نقوله شعارا. وفي المقابل الم يكن مطلوبا من المثقفين المحسوبين على السنة عمل نقد ذاتي لكل مشاركة منهم في طمس معاناة الاخرين؟ كل الاخرين وليس تبريرها. اما كانت ستكون هذه نقلة نوعية تتحطم عليها كل المخططات التي بنيت في زواريب مخابرات صدام واعوانه؟.&

الصراع القائم حاليا لم يعد سياسيا، بل هو بكل المقايسس صراع تناحري يرمي الى ازالة الاخر من الوجود، تستعمل فيه كل الاسلحة، الاسلحة القاتلة للبشرمثل البندقية والدبابة والصاروخ وغيرها من قبل الارهابيين والمسلحيين المختلفين، كما تستعمل الكلمة من قبل بعض مثقفي العراق، وكم كلمة قتلت وهدمت اكثر من مدفع وصاروخ. والمطلع لحرب الكلمة بين اشباه المثقفين والذين يدعون الثقافة سيرى حجم التدمير الذاتي لعلاقة الانسان بالاخر. انهم بدلا من ان يتعاطفوا ويداوا تراهم يتلذذون بغرز السكين في الجرح. وبهذا الطريق يسير الوطن والشعب الى التفتت. وليس بسبب طلب احقاق حقوق محقة وقانونية وحتى ان كان هناك خلاف عليها.

يا ترى كم منهم حاول ان يرى تعاطف المثقف الاسرائيلي مع معاناة العربي في اسرائيل، كم منهم تفهم روح التعاطف التي يظهرها البعض مع قضايا انسانية محضة، وهم لا يمكنهم ان يتعاطفوا او يتفهموا الاخر من بني وطنهم. اذا كنا قادرين ان نتحارب او ان ننعت بعضنا بالصفات التي نطلقها (صفوي، رافضي، ناصبي وهابي، عميل اسرائيل، شعوبي، عميل الامبريالية) فهل يمكن ان ندعي الرغبة في ايجاد الحلول. ام ان كل طرف يرى الوطن على مقياس طائفته، غير مدرك ان غاب الاخر فان الخلاف سيتحول داخليا، ولن يتمكن من ايقافه احد، الا بما اوقفه الاخرين، اي قبول الاخر كما هو وليس كما نريد.

شكرا لمن يدافع عن المسيحيين بدعوة انهم من اصحاب الديانات السماوية، وياريت تمكن احدهم من ان يشرح لي معنى ديانة سماوية واخرى ليست كذلك. ولكن اليس في هذا القول اباحة لدم الازيدي والمندائي والكاكائي والبهائي ووو؟ اذا الدفاع اولا واخرا يجب ان يكون عن الانسان وانسانيته، بما يحمله من قيم وثقافة وتنوع. في نظر المثقف يجب ان لا يكون هناك ديانة سماوية واخرى ارضية او غيرها، الديانة هي معتقدات الناس عن الخلق وما بعد الموت، وليس من حق احد ان يفرض ما يعتقده على الاخرين. ان الكل يدور ويلتف في نفس دائرة الداعشي وان كان البعض يلبس الكرافتة والبدلة العصرية، الا ان دماغه يشتغل على نفس الية الدواعش.

فجاة تحول المثقف الشيعي اكثر عنصرية من البعثي، الذي كان يتهم الحركة والكوردية وقادتها بانهم عملاء اسرائيل يريدون تفتيت وتقسيم العراق واقامة اسرائيل ثانية، هذا الشيعي الذي كان بالامس مضطهدا لشيعيته، بعد ان تسلم السلطة اراد ان يصنع العالم كما يريدها والا فالكل عملاء وخونة، اذا بماذا اختلف عن بعثيي الامس؟ وهكذا الكوردي في رد فعله ولن نستثني الاشوري والتركماني من ذلك.&

في الازمة الحالية ليس هناك صالح ومحق مائة بالمائة، وليس هناك مخطئ ومسئ مائة بالمائة، انها مصالح ويجب ان يكون هذا المصطلح (المصالح) مفهوما كمصطلح سليم وسياسي وليس كمصطلح للاتهام والتهكم. والسياسية هي ذلك العلم الذي يدير الخلاف حول المصالح المتناقضة، وبه تتوصل الاطراف المختلفة الى حل تناقضاتها وخلافاتها. وكان على المثقفين ان يرتقوا الى مستوى ما تحمله صفتهم كقيمة عليا فوق المصالح، الى عالم القيم الرحب. قيم تمجد المساواة والعدالة وحياة الانسان وانسانيته. ولاننا لم نعد وطنا ولسنا بمواطنين ولم نرتقي لمستوى الانسانية فان ممارساتنا تتفق مع ما نحن عليه، وليس مع ما ندعيه بانه الثقافة والمثقف.&