&في هذا العصر المتداخل، المتعدد الأبعاد، كاد دور المثقف الذي عرفناه سابقا أن يختفي نهائيا. ففي مجتمع لم يكن يعرف أغلبه القراءة ولا الكتابة، مجتمع عانى ليس من جهل في المعلومة العامة بل من جهل في الحقوق المباشرة وكيفية الدفاع عنها، برز دور المثقف المتعلم في توجيه وتثوير وعي المجتمع، برز دور المثقف- أستاذ المدرسة الابتدائية، الشاعر أو الكاتب في تسليط الضوء على الحقيقة الغائبة. في ذلك الزمن كان الناس في الظلام، يواجهون ظلم الإستعمار المباشر وظلم الإقطاع. القوى المعادية موجهة نحوه بشكل مباشر. مهمة المثقف آنذاك كانت ذات بعد وحيد، إما الموت وإما الحرية ولا ثالث بينهما، ذلك لأن الحياة كانت في حديها النهائيين، أسود وأبيض. لقد دفع الإستعمار أو القوى المستغِلة الإنسان المستغَل إلى النقطة التي لا خطو ٍ آخر بعدها. فكان باب الحرية "بكل يد مضرجة يدق". لا يمكن الحصول على الحرية بالمساومات ولا بالحوار بل بالدم. وقد برز دور المثقف المناضل الذي يبحث عن النور كي ينير به ظلمات الليالي المدلهمة، بروزا سهلا، من باب أن القطب الآخر، الاستعمار والمستغِل، كانا بوجهيهما الحقيقيين من دون أقنعة ولا تخفـّي. الهدف هو هناك ولبدء النضال من أجل الحرية يجب إطلاق النار على ذلك الهدف واضح المعالم. أيامها كان التعليم يعني الحرية والتقدم، الحصول على الإنسانية... أما اليوم، هذا اليوم الذي يركب الأرجوحة ويسافر سفرالضوء، فإن دور المثقف لم يعد له المكانة السابقة. لن يكفي التعلم ولا القراءة ولا جني المعلومات. حيث القراءة لم تعد مشكلة ولا الكتابة كذلك، والمعلومات أمست ملقاة على قارعة الطريق، لم تعد مشكلة أيضا.

لقد تغيرت المعادلة، راح المستغِل يلبس أقنعته ويفكر، لا يدفع من يستغلهم نحو النقطة النهائية التي لا خطوة أخرى بعدها، بل يستخدم شعرة معاوية، يرخي إن شدوا ويشد إن أرخوا. هذه الحركة الدينامية والتي أكتشفها المستغِل متأخرا يهجر باكتشافه هذا سكونه السابق: الستاتيك الذي بسببه وجهت نحوه السهام القاتلة، هذه الحركة الدينامية شوشت الصورة على المثقف وبالتالي ألغت دروه.
ظل الأغلبية في وضع المستغَل فاقدين للحقوق الإنسانية. معظمهم يقرأ ويكتب، بعضهم مثقف، ربما شعراء وكتاب يشتغلون بالنضال السياسي!! لكن لا يدري أي منهم أين الشيء الذي يبحث عنه. الأهداف غير واضحة، غامضة أو مضطربة وإن توفرت المعلومات عنها فهي غير كافية لتحقيق العدالة أو النصر. لا ثمة وجود لخطوات حقيقية!!
لقد تطور المستغِل وخطا خطوة نحو الأمام بينما المستغَل ظل يراوح بشخصية المثقف المناضل، لا يدري أن هذه الشخصية التي كانت في وقت ما مشعل نور له، أصبحت الآن عبئا عليه، وربما راحت تعمل من غير قصد ضده. برزت الشكوك حوله، هل المثقف مع المستغِل أم أن الآلة الإجتماعية تغيرت وتعقدت؟!
سوف نكف عن البحث عن المثقف بمعناه القديم، ذاك المثقف أصبح عملة زائلة obsolete منـَسَق. ونتقدم بخطوة تلاحق خطوة المستغِل كي نحقق وجودا نعيد فيه حضور المثقف المعاصر، وجودا وحضورا ديناميكيا حيويا لا يكتفي بالثقافة فقط ولا بالمعرفة، الحدان الأوليان الساذجان ذلك لمن يبحث عن العدل والحرية.
الخطوة التي سيخطوها المثقف المعاصر ستكون متقدمة على خطوة المستغِل، خطوة ٌ ستجعل أو ستحول فيه الخطى الديناميكية التي احدثها المستغِل ويقوم بها إلى خطى ستاتيكية لا تصمد أمام السهام، سيعيد المثقف توجيهها نحوه قاتلة مرة أخرى.
ليست معرفة القراءة والكتابة، محو الأمية، ما جعل المثقف القديم يرتفع إلى مكانته البارزة في المجتمع. ليست الثقافة، بل هو شيء آخر مختلف تماما عن ذلك.
كانت القراءة، الثقافة، ومنها جاء المثقف، هي السبب الذي جعلته ينظر لما يجري حوله ليس بعيني مثقف قارئ بل بعيني راء ٍ منوِّر. كانت آنذاك معرفة القراءة هي المدخل لإمتلاك شعلة التنوير، كون المستغَل كان يقف على جرف ينهار، بينما الآن فأداة الثقافة الأولية لم تعد كافية. فالمستغِل مثقف أيضا ويملك الإعلام ويستطيع بأدواته أن يرفع أصبع الاتهام نحو المثقف. والمستغَل لا يقف على جرف ينهار، بل هو بعيد ويملك ما يجعله يتشبث بالأمان الكاذب.
التنوير لا يعتمد مطلقا على الثقافة بمعناها الأولي ولا على القراءة بل يعتمد على القدرات النفسية والموهبة. هذه القدرات حين تواجه ظلما يقع في حده النهائي فلن تجد صعوبات كي تظهر وتبرز. القدرات النفسية هي الصرخة في وجه الظلم، صرخة ًستتغير إن خبا قليلا الظلم....
مازال المثقف العربي يقف أمام الغشم محملا بالمعلومات والثقافة دون أن يخطو خطوة أخرى نحو الكشف والرؤيا. إنعدام الكشف\ الرؤيا جاء من الإفراط في إستخدام مسحج الثقافة. هذا الإستخدام لن يزيد في الثقافة بقدر ما سيمحو شخصية الأصل. هذا ما نراه اليوم من حال معظم مثقفينا وكتابنا ومفكرينا. لقد أفرطوا بتناول حبوب الثقافة الموروثة أو المستوردة أغلب الأحيان حتى أمسوا نسخا أجنبية، أمريكية \ فرنسية. بهذه الأداة التي يحملها المثقف لن يتم حل أو ربط.
نرى اليوم أن حال المثقف المعاصر قد أصبح صعبا وأمسى شائكا بامتياز، ليست القراءة أو الثقافة ما تجعل من المرء مثقفا عصريا – العصر الذي راح يمتطي تنيناً بألف يد ولسان- أين منه المثقف القديم الذي مصدر وعيه جاء من بطون الكتب؟! يجب البحث عن منبع ومصدر آخر.
والمجتمع اليوم هو مجتمع شبه ضائع، ضال، تائه، ولن يستجدي طريقه بالاستماع إلى عبارات وكلمات شعر تستنطق الذات كما نجده اليوم عند معظم شعرائنا، فكل هذه لن تدله على الطريق، وهذه ربما كانت أحد الأسباب التي جعلت المجتمع يهجر القراءة. القراءة العبء التي هي ضد الزمن، وتهدر وقته. لن يوقظه أيضا أو يدله على الطريق شاعر كلاسيكي مشروعه هو الوطن كما نجد الحال عند الشاعر أحمد مطر الذي مازال يخطو بخطى قديمة لا تناسب التطور الحاصل.
كان المجتمع السابق يؤمن بالمثقف أما اليوم فقد مات ذلك الإيمان وتبدد. كان إيمانا دينيا، ذلك كما ينظر الطفل إلى الأب وينظر التلميذ إلى أستاذ المدرسة. ولكذا أرى صعوبة أو إستحالة استعادة مكانة المثقف الذي يعتمد القراءة والكتابة فقط، لن يؤمن به أحد، فالكاتب المثقف يعرف كما أعرف أنا، ويحلل كما أحلل، فلماذا أتبع خطواته؟! أنا ضائع وهو ضائع. وفي الأغلب سيقول لي ما أعرفه وما أراه أمام عيني، بل ما أراه أمام عيني ربما سيكون أشد وقعا.
لماذا انبهر نيكوس كازنتزاكي بزوربا؟! ببساطة، لأن في داخله كانت شعلة نار، في داخله حياة كاملة. هذا هو دور المثقف المعاصر، ليس الثقافة في داخله بل النار، سوف نبحث ليس عن المثقف، مرة أخرى، بل عن المنوِّر، صاحب النار. سيكون هو المثقف المعاصر بل المثقـِّف المعاصر، المنوِّر، النبي. المثقف المعاصر، ربما يكون كاتبا، أديبا، لكن لا يكتب بالكلمات بل بالنار، ومن يقرأه سيقف أمام الملك الذي ما فتأ يرتدي لباسه الوهمي في ديارنا كي يصرخ في قصره من دون خوف، يا الملك أنت عار. لا يصرخ فقط بل يقوم ويرمي عنه لباسه ثم يصرخ من جديد: هكذا انت أيها الملك عاريا كما أنا.
هذا النوع سيقف ضد التنميط وضد الإيمان الراكد، يوسع وعيه بشكل مستمر ويجعل في داخله اللايقين والشك في كل مظاهر الحياة – الحياة حياتنا فإن كانت غير متوافقة مع أحلامنا وتصورتنا فهي موت حقيقي، تؤام الجحيم، فلماذا نحياها؟!