نحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا أسبابًا له؛ وإنما نجد أسبابًا له؛ لأننا نريده... ونحن لا نرى الشيء حسنا لأنه حسن في ذاته؛ بل لأننا نراه حسنا؛ بحسب ما يعود علينا منه من منفعة... وقد لا نستطيع أن نقنع أحدا بالمنطق (العقل والتصورات المجردة) بل نحتاج مخاطبة الرغبات (الإرادة) ولا يستطيع أن ينفكّ من هذا الإطار الفكري إلا الفنّان المبدع أثناء الإبداع؛ إذ تصبح معرفته معرفة خالصة نزيهة متحرِّرة من قبضة الإرادة، كما يستطيع الانفكاكَ من تلك القبضة الزاهدُ والقدِّيسُ (المتديِّن) من خلال وأد الرغبات...
الإرادة -عند شوبنهاور- هي إرادة الحياة التي تعبّر عن نفسها كاندفاع أعمى لا عاقل نحو الحياة؛ فالإرادة تعني أن نريد... أن نرغب... ومن ثم فالإرادة هي الرغبات والاندفاعات والميول، التي تتجاوز الحياة الواعية؛ لتصل للحياة اللاواعية، والطبيعة اللاعضوية، وحياتنا وتجاربنا الشخصية تؤثّر في رؤيتنا للعالم وللحياة، كما أنّ رؤيتنا للعالم وللحياة تتشكَّل من خلال تأمّلاتنا لتلك التجارب والخبرات التي نمرّ بها...
تشاؤمُ شوبنهاور تشاؤمٌ ميتافيزيقي، وهو حالة من التشاؤم اللطيف، تشبه حالة الجنون اللطيف، التي تصاحب الإبداع، وهي حالة مرتبطة برؤيتنا للعالم والوجود في مجمله، واستمتاعنا بما يأتينا من خيرات وسط منغِّصات غالبة "لقد خلقنا الإنسان في كبد". وفلسفة شوبنهاور قد لا تخلو من روح إيمانية، تختفي وراء سطحها الظاهر... ورغم أنّ الدين عند شوبنهاور مرتبط بتشاؤمه الميتافيزيقي إلا أنّه يقدِّر الأديان، التي تتعالى على العالم، وترى الخلاص والسعادة في التحرر من شقاء الرغبة الأبدي...
أثّر شوبنهاور في علماء نظرية التطور، وعلى رأسهم (دارون) إذ استفادوا من تحليلات شوبنهاور للإرادة في الطبيعة باعتبارها صراعًا من أجل البقاء، وحفظ النوع... وتتحقق دومًا نبوءة شوبنهاور التي توحي بها رؤيته للفكر الحقيقي؛ باعتباره ذلك الفكر الذي يبقى رابضًا هناك على جزيرة في خِضَمِّ المحيط، مرسِلا إشاراته الضوئية لملاحي المستقبل؛ لعلّهم يدركونها يومًا... وتبقى الدعوة إلى الخلاص التام من شقاء الإرادة من خلال العمل على وأدها تبقى غير مقنعة؛ لأنها تمثّل في النهاية موقفًا هروبيًا انسحابيًا من الحياة...
فَهْمُ حقيقة العالم من حولنا بما ينطوي عليه من بؤس وألم ومعاناة تعلِّمنا أنْ لا نتشبَّث به كثيرًا؛ لأنّ هذا التشبُّث هو أصل الشقاء؛ إذ يعني التعلُّق بما قد لا يأتي أبدًا، والرجاء فيه دومًا... وينبغي أن نتعلَّم السموَّ على عذابات هذا العالم وآلامه، وأن نجد في هذا السمو والتسامي كثيرًا من المتعة التي تبقى، والتي تعيننا على شقاء الحياة، وهذا هو معنى الإبداع الخالص النزيه المتحرِّر من قبضة الرغبات الذاتية؛ وإن لم نستطع على هذا الإبداع فإننا -على الأقل- نستطيع تأمّلَه، والاستمتاع بهذا التأمل، والحياة ليست هانئة دومًا؛ مهما ابتسمت لنا ومنحتنا على المستوى الشخصي؛ وعليه لا بدّ أنْ نكون مهيئين لكل ما يأتينا منها، دون أن ننكسر...
الإرادة -عند شوبنهاور- هي الماهية الباطنية للعالم، وتتجلّى في الطبيعة الإنسانية، وفي الطبيعة العضوية واللاعضوية على السواء، وإن كانت تعبِّر عن نفسها بوضوح أكبر، وأكثر تعقيدًا كلما ارتقينا في سلّم الوجود، والأسنان والمعدة والأمعاء تعبيرٌ عن جوع متجسِّد، والأعضاء الجنسية تعبيرٌ عن رغبة جنسيّة متجسِّدة... والجسم تشكَّل ليلائم الرغبات المناظرة... وتبقى الموسيقى هي أسمى الفنون عند شوبنهاور؛ فهي تجسِّد بعمق حقيقة وجودنا في كافة تجلياته، كما أنها تجسّد -عبر صور كثيرة- الإرادة التي تتجلّى في الوجود عبر سائر سكناتها وحركاتها...