يرى القاضي الجرجاني أنّ تقديس القديم عائدٌ للظنِّ الجميل والاعتقاد الحسن.. والجرجاني -بوصف أدونيس في كتابه الثابت والمتحوِّل- أولُ مَن شكَّك - على الصعيد النقدي النظري - بكمال الأصل؛ فالجرجاني يعيد ذلك الظن الجميل إلى عواملَ نفسيّةٍ؛ لا عقلية، وينتقد الجرجاني نظرية الطبع؛ فالشعر البدوي وجهٌ للسوقية المدنيّة... وهذه فكرة ونظرة عميقة يمكن أن نسحبها على مجمل التراث؛ فكل إبداع فيه يبقى قليلا؛ قياسًا بمراحل التكرار والاجترار، التي تتلوه على شكل اختصارات وشروح، وشروح الشروح، وهي أعمال تقليدية استنزفت العقل العربي، وما زالت تستنزفه!

كمال الأصل يعني أنّ الأول لم يترك للثاني شيئًا؛ وفقًا لذلك المثل الخاطئ المشهور، وهذا تصوُّر يمنع المتأخر من تسجيل بصمة خاصّة به، ويكبِّله في سبيل تحرُّره وإبداعه... والإبداع نشاط إنساني يتخطّى الراهن المعروف ويولِّد الجديد غير المعروف؛ فالحضارة ليست تكوينًا واحدًا وإنما هي على العكس إعادة تكوين مستمرة، وهذا يعني أنّ الفعل لا يكون حضاريًا إلا إذا كان خلْقًا لا تكرار فيه؛ فليست الحضارةُ القيمَ وحدها وإنما هي كذلك عملية إبداعها...

وما تقدّم يقودنا لسؤال يتمثل في: هل إعادة النظر بمفهوم التراث ضرورة؟
التراث مادة حيادية، تتحرك بين يدي المبدع؛ فلكل مبدع تراثه الخاص، والتراث الحقيقي هو تراث الابن؛ لا الأب، والعلاقة بين التراث والإبداع ليست علاقة سبب بنتيجة؛ فهناك أمم تمتلك تراثًا لم يمنع من انحطاطها وسقوطها إلى مستوى الأمم العادية، أو ما دون ذلك، وقد لا يكون لأمةٍ أيّ تراث لكنها استطاعت أن تنشئ تراثا في مستوى الأمم المتفوقة، وتبقى اللحظة الإبداعية مغايرة مختلفة عن اللحظة التأريخية، أو التراثية؛ بل يمكن أن تناقضها؛ باعتبار الفنان يقيم في زمنٍ ليس بالضرورة زمنه الراهن؛ فقد يقيم في الماضي، أو في الحاضر، أو في المستقبل، أو في هذه الأزمنة جميعا.. ومن هنا تنبجس لحظة العمل الفني المختلفة عن لحظة الذوق السائد.. وهذا لا يتنافى مع كون بعض الأعمال الفنية تحدَّد بالذوق؛ لأنّ الأعمال العظيمة هي التي تحدِّد الذوق..

الأعمال التقليدية تنسجم مع اللحظة أما الأعمال الإبداعية فتخلقها.. الأولى تتابع تراثاً أو تاريخا تندرج وتذوب فيه.. أما الثانية فتبدأ تاريخا جديدا.. الأولى تدخل سلبيا رقما أو عددا في حركة التاريخ.. أما الثانية فتفجأ هذه الحركة وتمنحها بعداً آخر، أو اتجاهاً آخر..