تَكثر الحملات وتتعدد الجمعيات التي تُعنى بالمرأة وشؤونها وحقوقها، رافعة شعار المساواة مع الرجل. ولكن هل تحتاج المرأة فعلاً إلى أن تتساوى والرجل أو أنْ تتوازى معه؟

قد يقول البعض إنّ المساواة شعار يُقصد به المساواة في الحقوق، وفي فرص الوصول إلى مناصب معينة، وفي حدود الحرية التي يُسمح بها للفرد في المجتمع بغض النظر عن هويته الخاصة أو العامة... لكنَّ المساواة هنا شعار ينطلق من الطبيعة البشرية المشتركة لكلّ من هذين القطبين – أي المرأة والرجل، أو الأنثى والذكر من بني آدم – من وجودهما الإنساني الذي لا تفاضل فيه بينهما، إلاّ بحدود من يرتقي بهذا الوجود إلى آفاق جديدة، لكنّ هذا الارتقاء لا يلغي التطابق التام في ماهية هذا الوجود، بغض النظر عن الجنس.

وقد يقول البعض إنّ المساواة التي تبحث عنها هذه الحملات، وتُعلي صوتها بها الجمعيات إنما هو استعادة لحقوق هذه المرأة أو الأنثى، وإثبات لقدرتها على أن تنوب مكان الذكر في مجالات الحياة كافة، خاصة في سوق العمل، في السلك العسكري، والسياسي، وغيره من تشعبات ما تفرضه الحياة على الأفراد والمجتمعات في واقعها وسيرها التقدميّ في ميادين العمل والعلم والاقتصاد والدفاع...

لذلك فإنّ السؤال المطروح ذو الإشكاليات المتعدّدة هو: هل تحتاج المرأة أو الأنثى الإنسانة فعلاً إلى المساواة مع الرجل؟ وهل هي المساواة أو الموازاة؟ وهل تكمن مشكلة المرأة أو الأنثى الإنسانة في الرجل؟ وهل عليها مواجهته لكي تحصل على اعتراف بإنسانيتها وحقّها الطبيعي في ممارسة هذا الوجود الإنساني الخاص بها؟

المساواة من ساوى يساوي مساواةً. يقول الجوهري في صحاحه إنَّ «كلّ شيء ساوى شيئًا حتى يكون مثله فهو مكافئ له... والتكافؤ الاستواء» (الجوهري: الصحاح، موقع الورّاق https://alwaraq.net النسخة الالكترونية، ص 618) ويقول ابن منظور في «لسان العرب» «ساوى الشيء بالشيء إذا عادله، وساويت بين الشيئين إذا عدلْت بينهما وسوّيْتَ... ويُقال فلان وفلان سواء أي متساويان...» (ابن منظور: لسان العرب، موقع الوراق https://alwaraq.net النسخة الالكترونية، ص 2798).

وإذا أردنا أن نترجم ما قاله الجوهري وابن منظور وفقًا لرموز الرياضيات لكان الرمز الصالح ليقابل شعار المساواة هو (=)، والذي يعني المطابقة التامة بين ما قبل هذا الرمز في المعادلة وما بعده في المعادلة عينها. بعبارة أخرى، فإنّ المناداة بالمساواة بين المرأة والرجل تستجيب لهذه المعادلة: المرأة = الرجل.

وهنا، يبرز استفهام منطقيّ بسيط جدًا: كيف تكون المساواة بين طرفين غير متساويين بطبيعة وجود كل منهما منذ أو وجِدا؟
في نفي هذه المساواة اعتراف بتمايز كل منهما، لما امتاز به كلٌّ منهما من سمات لا تتحقّق في الآخر، وإلاّ لكان وجود الواحد منهما غير مرتبط بوجود الثاني، ولا متعلّق به، وهذا غير صحيح استنادًا إلى طبيعة الحياة منذ أن بدأ الزمان، إذ لا تقوم حياة من دون جناحين هما الأنثى والذكر في الكائنات الحيّة كافة، ومنها البشر.

تمتاز المرأة عن الرجل بسمات كثيرة تصنع ماهيتها، كما يمتاز الرجل بسمات تشكّل ماهيته من ناحية التكوين الجسدي والنفسي والعاطفي والعقلي. وإذا كان الرجل يملك حيوانًا منويًا هو بذرة الحياة، فالمرأة تملك الجزء المكمّل لهذه البذرة، والأرض الخصبة الصالحة لإنباتها، وسقيها، وإنشائها، وإخراجها من الظلمة إلى النور، ومن ثمّ السهر عليها، وتشذيب طباعها، وإشباع فضولها حتى تخرج إلى الحياة كائنًا قادرًا على أن يكون فردًا فاعلاً في مجتمعه، بغض النظر عن نسبة النجاح في هذه الفاعلية. وعليه، كيف تتحقّق المساواة بين المرأة والرجل، ولا يمكن للرجل أن يساوي المرأة يومًا في صناعة الحياة؟!

ربما يرنو للبعض أنّ التقدّم العلمي الحديث يسمح للرجل بأنّ يزرع البذرة الملقّحة في جوفه، تنمو فيه حتى تخرج كائنًا حيًا يُنشئه كما المرأة بالضبط. ولكنَّ، الرجل هنا يتوسَّل العلم ليضارع المرأة في قدرةٍ تُشكِّلُ جزءًا من ماهيتها وطبيعتها الوجودية، وعليه، لا مساواة قائمة هنا، خاصة مع فشل الرجل في أن يكون مُرضعًا لمولوده إذا حمِل به على خلاف المرأة.

المرأة هي التي تمسكُ استمرار الحياة بيديها، وتَحتضن الحياة بِرحِمها، وتَحفظُها وتُربيها بعاطفتها وصبرها وقوة احتمالها... لهذا السبب، الذي يُعدّ أكثر من كافٍ، المرأةُ مقدَّمة على الرجل، لأنها بكل بساطة هي الحياة وهي الخصوبة وهي الغد...
وبناء عليه، ألا يكون استبدال المساواة بشعار العدل أو الموازاة أفضل؟

شعار العدل يكاد يكون أجدر من المساواة في الاستخدام، كما الموازاة.

العدل، لأن العدل بين جناحي المجتمع هو المطلوب لكي تنتفي الأمراض التي يعاني منها والتي يتسبب بها الشعور بالظلم، والغبن، ومحاولات الإقصاء، ومؤامرات الإلغاء وغيرها التي قد يمارسها الطرف الأقوى على الطرف الأضعف، والذي عادة ما يكون هو المرأة لأنّ استضعافها أُرْسِيَ بالأعراف الاجتماعية بعد الانقلاب على العصر الأموي – نسبة إلى الأم – واستلام الذكور سدة الرياسة (الماجدي والسواح: قناة الغد، برنامج يتفكرون، تاريخ 17 تموز 2019)، كما بالقوانين التي سنّتْها المجتمعات لتنظيم وجودها السياسي والتشريعي والمهني وحتى الديني، مستغلّة ربما – أي هذه المجتمعات – مبلغ القوة الجسدية التي تفوق نسبتها عند الذكور نسبتها عند الإناث لا سيّما في بداياتها كما كان واقعًا في أثينا في ذاك الزمن السحيق، وكما هو واقع في بعض المجتمعات اليوم التي تتعامل مع الأنثى وكأنها كائنٌ «درجة ثانية».

والموازاة، لأنّ الموازاة تعني أن تسير الحقوقُ التي أعطاها الذكور لأنفسهم بعد نقضهم لعصر الالهة الأم، وسيطرتهم التي بسَطُوها على المجتمع «الذكوري» منذ ذاك الحين، أن تسير الحقوقُ جنبًا إلى جنب بما يعترف بإنسانية المرأة كما الرجل، وفردانيتها، وحريتها، وعقْلها، وعلمها، وقدرتها، وكفاءتها، وذكائها، وقرارها، وإرادتها، ووجودها، وشراكتها للرجل في الوجودين المادي والروحي، وبإنسانيتها كما أولاً كذلك أخيرًا.

ومع العدل والموازاة تنتظم نظرة المرأة لذاتها، فتنطلق عندها من إنسانيتها قبل أنوثتها، وتتحرّر من القيود التي تقيّد عقلها ودورها في الاهتمام بالرجل والبيت والأولاد وطهو الطعام و«الوقوف على المجلى» هذه الجملة التي تدلّ على تخلّف من ينطق بها عندما ينظر لاِمرأة طموحة عارفة مثقفة ويخبرها بنبرة المنتصر أنّ نهايتها هي في ثلاثية أقطاب هذا الاهتمام وأحادية العلاقة مع المطبخ الذي يبدو بهذه العبارة وكأنه مركز الكون!

ومع العدل والموازاة يتحرر العقل الذكوري الذي يُقفل على المرأة في حدود أنوثتها، وفي حدود وجودها المادي الذي يرضيه، والذي فيه أصل الشرور كذلك بنظره أو بنظر بعضه حتى لا يكون في التعميم إساءة لمن ارتقى بفكره، وعلا فوق غرائزه، ووثق برجولته، ولم يكتفِ بذكوريته، ونظر إلى المرأة وجودًا إنسانيًا يُحترم في وجوده وإنسانيته وحريته وإرادته وعقله، ولم يحمّلها مسؤولية ما يقع فيه من زلل، وما قد توسوس له به نفسه ونوازعه.

المرأة إذًا لا تحتاج إلى المساواة، بل تحتاج إلى العدل والتوازي.
ولكن، هل تكمن مشكلة المرأة في ما تسعى إليه مع الرجل؟ هل هو الغريم الوحيد الذي يمنعها عن إنسانيتها وحقيقة وجودها؟
الإجابة بالتأكيد: كلا. الرجل ليس هو الغريم، لأنه بكل بساطة، صورة عن تربية سقتْه بها امرأة أخرى، منذ أن بدأ رحلته في عالم الوعي، سواء الوعي الفعلي، أو الوعي الذي تشكّله له هذه المرأة لأسباب كثيرة، لعلَّ أبسطها أو أكثرها وضوحًا هو غيرتها من هذه المرأة التي ستدخل حياة هذا الذي تعدّه مُلكًا لها، وشعورها بضرورة ردِّ اعتبارها أمام نفسها لظلمٍ تعرّضت له من رجل هو نتاج تربية امرأة أخرى... ذلك أنّ تلكَ المرأة بالنسبة لهذه المرأة هي الحلقة الأضعف التي تَقْدر هي على أنْ تتحكَّم بها وبحياتها وبراحتها من خلال تحكّمها بالرجل الذي ربّته.

لا يمكن للمرأة التي تطالب بحق النساء اللواتي يتعرضْن للعنف الجسدي واللفظي، للقتل بحجة جريمة الشرف التي تبدو بتوصيفها «جريمة شرف» أقرب إلى حجة قتل جاهزة لإزهاق الروح عند الطلب – جريمة جزائية مشرّعة اجتماعيًا لغاياتٍ يعقوبية - لا يمكن للمرأة التي تطالب بحق النساء اللواتي يُحرمن من العلم والعمل ويُزوّجْنَ باكرًا، ويُحمّلْنَ مسؤولية ما يقع فيه الرجل من زلاّت وسقطات؛ لا يمكن لهذه المرأة أن تنسى أنّ خلف هذا الرجل امرأة قادته عبر السنوات إلى هذا الطريق، وامرأة شجّعته أمًا أو شقيقة- وبعض الجرائم التي وقعت ضد النساء في السنوات الأخيرة خير شاهد- ، وعليه لا يمكن حصر المعركة بمقارعة الرجل لتحقيق «المساواة» أو العدل والموازاة، بل بتوسيع رقعتها لتشمل المرأة ذاتها، المرأة التي تبرِّر هذه الإساءة وتدفع إليها.
الطريق الذي مشت فيه المرأة لا يزال طويلاً، لكنّ المحقق حتى اليوم لا يعتبر بالقليل. والمعركة تحتاج إلى تطوير للاستراتيجيات المتبعة والأسلحة، ولعلّ أجدى هذه الأسلحة وأمضاها هو سلاح الوعي والكلمة، لا بالحملات التوعوية فحسب، بل من خلال العمل على التشكيل العقلي للأفراد منذ نعومة أظافرهم، من خلال مضامين المناهج التعليمية، التي تعلّم أهمية الوجود الإنساني في الأفراد، فيلتفت الرجل إلى إنسانية الوجود في المرأة قبل أنوثتها، وتلتفت المرأة للإنسانية فيها والعقل والإرادة والحرية قبل أنوثتها، وتحترمها، فتفرضُ على الفرد الآخر رؤيةَ هذا الإنسان فيها قبل ملاحظة الأنثى الزوجة والولاّدة والعشيقة، واحترامَ هذا الإنسان فيها، وتربّي الرجلَ على إدراك هذا الوجود الإنساني في المرأة التي ستستجدُّ في حياته قبل أن يجرفَه الجهلُ إلى أنْ يظلمها بظلام عقليّة رجعيّة ساديّة مستبدّة.