الكثير منا يتبجح قولاً وكتابةً: "أنا المُهم". فلا تخلو الحياة هذه الأيام من طوفان هذا المريض النرجسي الذي يقول لنا بالفم المليان أنا "المهم"، حتى تقطعت بنا الأفكار لمعرفة فواصل الحياة، وقياس المهم من الأهم، أو البليد من الذكي. فنحن في مواجهة أعاصير بشرية تحمل جينات "المهم" حتى ولو كان مجهولاً في نسب الوظيفة والعلم والثقافة، أو معلوماً في القتل والفساد. انقلبت الدنيا ومن عليها على رؤوسنا بسبب جهالة "المهم" ونرجسياته المريضة المحتقنة بغبار داء العظمة، وتضخم الذات.

صرنا نكتشف عجائب بشر من فصيلة "المهم" يصنعون لنا خرائط وهمية لإجبارنا على قبولهم بخداع البصر والعقل من خلال حب الذات، والاهتمام بالمظهر الخارجي، والإعجاب المفرط بشخصيتهم، وشعورهم بالاستحقاق، والتكبر والعجرفة، حيث شعور النرجسي بأنه الأعلى مكانة، والأكثر حذاقة. هو العالم في كل شيء، والوحيد في الكون الذي بإمكانه إن يؤسس إمبراطورية نكون فيها رعيّة تابعة له، ويكون هو سيدنا علماً ومقامات وفضائل. هو "المهم" ونحن اتباعه لا أتباع غيره.

ثمة إجماعٌ تعزّزه الشواهد باستمرار على أن شعور المرء بأهميته لدى الآخرين يحتل مكانةً متفردة بين مفاهيم علم النفس وعلم الاجتماع. يقول "جوردون فليت"، الأستاذ بجامعة يورك في أونتاريو، والذي صدر له كتابٌ عام 2018، تحت عنوان «سيكولوجية الأهمية: فهم حاجة البشر إلى الشعور بكونهم مهمين»: أن الشعور بالأهمية يتداخل مع مفاهيم أخرى مثل تقدير الذات، والدعم الاجتماعي، والإحساس بالانتماء، لكنه لا يتطابق معها".

ويلخص صفات الفرد الذي يدعي أنه "المهم"، بأنه يريد التحكم في كل شيء، هو الوحيد على حق دائم، يتحدث عن نفسه أكثر مما يتحدث عن الآخر، يميل للشكوى وتهويل الآمور، لا يجيد الإنصات ولاينتظر الإجابات من أحد، يمتص الطاقة الإيجابية من حوله، متشائم، ينظر إلى الأمور من زاوية مظلمة، ينشر الإحباط والقلق والتوتر في أماكن العمل والترفيه، مغرور وأناني، لديه ذاكرة نشيطة لاسترجاع الذكريات السيئة، يحب التلاعب بالآخرين لدرجة اللجوء إلى أسلوب التفريق، وتتبع عثرات وسقطات الآخرين، وملاحقة أخبارهم والتحدث عن أخطائهم ومشكلاتهم، والسخرية منهم، والانتقاص من قدر الآخرين، شخصية تفتقر للثقة بنفسها وبالآخرين، ومع ذلك يقول لك بعنجهية: أنا "المُهم".

عندنا في العراق "المهم" هو؛ "الشلاتي" و" السبندي" و"الدجال الديني" و"اللص" و"العميل“ و"الانتهازي" و"الجاهل“ الذين صاروا يحركون ماكينة الحياة العراقية، ويستأثرون بالمناصب وجاه السلطة والمال. تراهم في السياسة والتعليم والثقافة يتصدرّون المواقع، ويصبحون أسياد العلماء والمبدعين.

لا عجب، إن يكون بيننا السياسي من فصيلة رعاة الغنم والهوش، والمهرب المحترف، والحملدار الذي ساعده الزمن ليصبح حاكماً يلعب في سيرك السلطة، ويأسس له دولة سرية أخرى. والمجرم الذي كان محكوماً عليه بتهمة السرقة والقتل الجنائي يصبح حاكماً في سلطات التنفيذ والتشريع. صار "المُهم" من يتلبس رداء الدين كذباً بعمامته السوداء والبيضاء، ويسرق أموال العباد بالطقوس والخرابيش ضمن جوقة السياسيين، والأذيال العتيقة.

ما زال البليد "المهم" حياً بيننا، يتجول في أحيائنا وكتبنا وإعلامنا وجامعاتنا ومؤسساتنا، ينهش لحم البشر حياً، ويخرّب جدار الحياة بروثه البشري وجراثيمه. صار "المُهم" حاكماً على بيوتنا وثقافتنا وفكرنا، فجاء بالكوارث والأزمات والانهيارات المتتالية، فجعل العراق في خبر الأمم، بلد الفواجع والحرائق والقتل. لأن "المُهم" الذي صنعته الأقدار، وبلادة الصدفة، جلب معه قمامات الماضي وخيباته، واختزل روح العراق ومستقبله في أحزان التاريخ.

صار العراق المُهم عبر العصور تابعا للسياسي "المُهم" الذي يرى نفسه أكبر حجماً من البلد والبشر؛ نعم هو "المهم" في تاريخ صنع الكوارث والفواجع، لكنه ليس إلا عابر سبيل مريض ينتظر وفاته في قمامة التاريخ.

ما أسوأنا عندما نستمر مع هذا "المهم" النرجسي الأغبر، الذي نشر ظلمة العلم والثقافة والكهرباء في شوارعنا، وملئها بالنفايات والمستنقعات الآسنة، والروائح الكريهة. ما أسوأنا عندما نسمح لهذا "المُهم" الجاهل أن يعبث بحياتنا ومصيرنا ومستقبلنا، ونحن نتمرد عليه باللطم والنحيب والشكوى. ما أكثر الوقت المُهدر من حياتنا في الانتظار بسبب هذا "المُهم" العبيط!


[email protected]