منذ أيام، خرج الصراع الإيراني – الإسرائيلي من الظل إلى العلن، من الضربات غير المعلنة إلى المواجهة المباشرة. لأول مرة منذ عقود، تتبادل طهران وتل أبيب الضربات، وتتبدّل نبرة الصراع أمام العالم الذي يُراقب خرائط النفوذ وهي تُعاد رسمها. وفي قلب هذا المشهد، يبدو الغياب العربي صارخًا، كأننا نشاهد حروب المنطقة من مقاعد الاحتياط، بالرغم من أننا في عمق جغرافيتها وفي مرمى تداعياتها.

كمواطنٍ عربيّ عادي، وباحث من بلدٍ أنهكته الصراعات، راقبت ما يحدث وأنا أقاوم الإحساس بأننا خارج المعادلة. ليست هذه حربًا تخص إيران وإسرائيل وحدهما، بل مفترق تحوّل في توازنات الشرق الأوسط، ومع ذلك يواصل العرب دور المتفرّج. لقد بدا لي أن الموقف العربي الرسمي، في مجمله، محكوم بالحذر والارتباك. لا موقف موحد، ولا رؤيا جامعة، وكأننا نعيش على هامش الحدث، نقرأ النشرة الجوية ونرجو أن تمرّ العاصفة دون أن تقتلعنا.

وفي المقابل، ظلّت الشعوب حية. رأيت كما رأى غيري مشاهد الغضب الشعبي والتعاطف الإنساني مع فلسطين، ورأيت كيف لا تزال الكرامة العربية تنبض بالرغم من الخذلان. لكنّ الكلمة تبقى كلمة، ما لم تُترجم إلى فعل، وما لم تجد سندًا سياسيًا يرتقي بها من الشعار إلى الموقف.

أستحضر الآن من الذاكرة لحظة مفصلية أخرى، لا لأغرق في الحنين، بل لأستدعي من التاريخ درسًا صريحًا: يوم كان العرب يقرّرون. حين وقف الرئيس جمال عبد الناصر في وجه القوى الكبرى وأمّم قناة السويس عام 1956، اجتمعت عليه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ظنّ العالم أن القرار الانفرادي سيكون انتحارًا، فإذا بالتاريخ ينصف القاهرة، وينكفئ المعتدون تحت ضغط عالمي وشعبي. لم تكن مصر تملك تفوقًا عسكريًا، لكنها امتلكت قرارًا وإرادة. كان ذاك زمنًا عربيًا بامتياز، لا لأننا كنا أقوى، بل لأننا كنا أوضح.

أحيانًا، حين نضيق بالراهن، نعود إلى زمنٍ كنّا فيه أهلًا للفكر والعلم. نتذكّر لحظات من العصر العباسي، حين كانت بغداد مركزًا للمعرفة، وبيت الحكمة قبلة المفكرين. تُرجم الفكر اليوناني، ونوقش، وتجاوزناه إلى إبداعٍ عربي خالص في الفلسفة، والطب، والرياضيات، والشعر، والمنطق. لم يكن ذاك العصر ذهبيًا لأنه مضى، بل لأنه أثبت أن هذه الأمة، حين تُمنح أدواتها، قادرة على المشاركة في صناعة الحضارة. لكننا اليوم نكتفي باستذكار ذلك المجد، دون أن نطرح السؤال الأصعب: هل يكفينا التطلع إلى ماضينا المضيء؟ أم نملك الجرأة لنفكر بخطةٍ تُنقذ المستقبل؟ إنّ أمةً لا تستثمر إرثها العلمي لتبني، تظل حبيسة الندب، تتفرّج على العالم وهو يصنع تاريخه من جديد، دون أن تُشارك في صناعته.

وفي لبنان، بدا الموقف الرسمي مفهومًا في سياق الحذر الواجب. فبلدٌ مثقل بالأزمات لا يحتمل الانخراط في حرب لا يملك أدواتها. لكنه، في الوقت عينه، لا يستطيع الانفصال التام عمّا يجري في الإقليم، ولا يملك ترف الصمت إلى الأبد. لبنان، الذي يعرف معنى النار، لا يستطيع أن يبقى على الحياد إذا اشتعلت النيران في بيته. من هنا، أفهم تروّي الدولة، ولا أهاجم حيادها، لكنني أدعو إلى أن يتحوّل هذا الحذر من غريزة بقاء إلى رؤية مدروسة تحفظ الكيان ولا تضيّع المبادئ.

الحرب الجارية اليوم تختلف عن سابقاتها، لا لأنها أشدّ ضراوة، بل لأنها تُعيد رسم ميزان القوى في المنطقة. إيران، بالرغم من الحصار، أثبتت قدرتها على الرد، وإسرائيل، بالرغم من الدعم الغربي، لم تعد مطلقة اليدين. أما أميركا، فبدت أكثر ميلاً إلى الاحتواء من الانخراط. وفي كل ذلك، أين العرب؟ بل أين القرار العربي؟ أخشى أن ما بعد هذه الحرب سيكرّس مشهدًا جديدًا، حيث تُعاد كتابة خرائط النفوذ، ولا مكان فيه للغائبين. أخشى أن تُرسم التسويات بلا اسمنا، وأن يُعاد تعريف الأمن الإقليمي ونحن خارج الحساب.

لقد مررنا في تاريخنا الحديث بمحطات مؤلمة: احتلال، انقلابات، اجتياحات، حروب أهلية، وانهيارات اقتصادية. وفي كل مرة، كنا ندفع الثمن، لا لأننا ضحية دائمًا، بل لأننا لا نملك خطة واضحة ولا إرادة جامعة. فهل نستفيق؟ هل نبدأ من الاعتراف الصادق بأننا ابتعدنا كثيرًا عن مركز الفعل؟

أكتب لا من باب اليأس، بل من باب الرجاء. لأن الأمل الحقيقي لا يقوم على التمنّي، بل على الوعي. وإن كنا قد تراجعنا، فلنبدأ من الاعتراف بذلك، لأن من لا يعترف بتراجعه، لا يملك فرصة النهوض من جديد.