تشهد أعداد الأطفال المصابين بالتوحد ارتفاعًا مستمرًا على مستوى العالم. وإن كانت هناك تحديات كبيرة تواجه ذويهم، فإنَّ التحدي يصبح أعظم حين يقترن بقلة الخبرة في العلاج، ما يؤدي إلى ضعف أو انعدام النتائج.

وتعمل المملكة العربية السعودية على تطوير مراكز علاج أطفال التوحد، وتخصص الدولة ميزانيات ضخمة لدعم هذه المراكز ومدارس الدمج، إضافة إلى تقديم خدمات اجتماعية كالحصول على تأشيرات مجانية لاستقدام مساعدين، وصرف معونات شهرية.

ورغم هذا الدعم، لا تزال معاناة الأهالي مستمرة، إذ يدفعون مبالغ طائلة للمراكز والمدارس، بينما يكون المستفيد الوحيد في هذه الحلقة أصحاب هذه المنشآت وبعض الأطباء الذين ينصحون الأهالي بالاتجاه إليها بعد التشخيص.

مراكز العلاج
أعلى برنامج علاجي متاح حاليًا في السعودية هو برنامج تحليل السلوك التطبيقي (ABA). ورغم أن هذا البرنامج لا يُفضل في بريطانيا ولا يُعتمد هناك حكوميًا بسبب ملاحظات متعددة على فعاليته وأثره، إلا أنه حتى عند تطبيقه محليًا لا يُنفذ بالشكل المطلوب. فالبرنامج يتطلب 40 ساعة أسبوعيًا، وهي مدة لا توفرها أي جهة بشكل كامل، وإن وُجدت فإن تكلفتها قد تصل إلى 50,000 ريال شهريًا، حيث إن متوسط تكلفة الساعة الواحدة يبلغ نحو 300 ريال.

تقدم بعض المراكز في جدة، على سبيل المثال، الحد الأدنى من البرنامج، بواقع 10 ساعات أسبوعيًا، وهي مدة غير كافية لإحداث تغيير فعّال. وأقل ما يدفعه الأهل هو 10,000 ريال شهريًا، ومع ذلك فالدخول إما بالواسطة أو بعد مدة قد تصل إلى سنوات لطول قائمة الانتظار.

أما بقية المراكز، فتقدم عدد ساعات حسب طلب الأهل، وهذا يعني أقل من الحد الأدنى بسبب التكاليف الباهظة، مما يؤدي إلى شبه انعدام للنتائج.

أضف إلى ذلك أن المدربين غالبًا ما يكونون حديثي التخرج ويفتقرون للخبرة، فيما المدربون المتمرسون نادرون وجداولهم ممتلئة، ولا يصل إليهم الأهالي إلا عبر الصدفة أو المعارف.

الفجوة بين السعودية والدول المتقدمة
لا تزال المملكة في بداياتها مقارنة بالدول المتقدمة، وتحديدًا بريطانيا التي بدأت رحلتها في علاج التوحد منذ الثمانينيات. ومن غير المنطقي أن نقارن واقعنا بواقعهم حاليًا، لكن من الضروري الاستفادة من تجاربهم وتطبيق ما تعلموه بشكل مدروس.

غياب النظام الشامل
حتى يتحقق التطور المنشود، فإن آلاف الأطفال والمراهقين المصابين بالتوحد في السعودية ما زالوا يعانون هم وأسرهم من نقص في خبرات المختصين وندرتهم. وتُعد مسألة التعليم من أكبر التحديات، حيث لا توجد مدارس متخصصة، بل برامج دمج محدودة في عدد قليل من المدارس، وغالبًا ما تكون رسومها مضاعفة، وتشترط وجود "معلمة ظل" تتحمل الأسرة نفقاتها.

وبسبب منع وزارة التعليم رسميًا لهذا النوع من الدعم، تلجأ المدارس الأهلية إلى تسجيل معلمة الظل كموظفة ضمن الكادر، ويتحمل الأهالي أعباء راتبها وإجازاتها. ويضطر الأهل إلى القبول بهذا الوضع لأن المدرسة لا تستقبل الطفل بدونه.

ورغم هذه التكاليف الباهظة، لا يوجد نظام تربوي واضح أو مختصون مؤهلون لدعم الأطفال. وقد يظن بعض الأهالي أنهم وجدوا الحل، لكنهم يكتشفون لاحقًا أن ما حصلوا عليه هو فقط قبول شكلي في مدرسة لا تحقق أي فائدة حقيقية. أما المتابعة الطبية، فهي في الغالب قائمة على اجتهاد الأهالي أنفسهم.

التجربة البريطانية كنموذج
في بريطانيا، يُعد التعامل مع التوحد نموذجًا يُحتذى به، حيث يوجد نظام متكامل يبدأ بتقييم شامل من قبل فريق من المختصين، يزور الطفل في المنزل والمدرسة، مثل أخصائي التخاطب، والأخصائي النفسي، وخبير التعليم، وأخصائي العلاج الوظيفي. تُجمع التقييمات في تقرير موحد يُرسل للأهل للمراجعة، ثم يُعتمد الدعم المناسب بناءً على حالة الطفل.

يُسجل الطفل بعد ذلك في نظام وزارة الصحة، التي تبدأ بسلسلة من الفحوصات الطبية من الرأس إلى القدمين، ويُحوَّل إلى أطباء متخصصين في العيون، الجلدية، الأسنان، التغذية... جميعهم لديهم خبرة في التعامل مع التوحد.

أما المدرسة، فهي تجمع بين الدراسة والعلاج في آنٍ واحد. فمدرسة Swiss Cottage في لندن تُعد من أفضل المدارس للطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقدم برامج لجميع المراحل الدراسية، حيث يُصمم لكل طفل منهاج خاص بناءً على التقييم الطبي والحكومي، ويوضع في الصف المناسب لعمره.

يخضع الطالب لتقييم يومي، ويُعقد اجتماع شهري لمراجعة وتحديث المنهج بحسب تطوره. كما توفر المدرسة معلم ظل عند الحاجة، وتُقدَّم وجبات مخصصة لكل طالب بناءً على رغباته واحتياجاته، بالتعاون مع الأهل. تشمل المدرسة كذلك جلسات تخاطب، أنشطة رياضية، حصص سباحة، غرف استرخاء، علاج وظيفي، غرف حسية، وكل ما يحتاجه الطفل من بيئة محفزة.

وتوجد في المدرسة وحدة تابعة لوزارة الصحة البريطانية لتقديم التطعيمات والفحوصات الطبية، بالإضافة إلى إجراء دراسات دورية لتحسين الرعاية.

الابتعاث كحل
يهدف اقتراح الابتعاث إلى توفير بيئة متكاملة ومناسبة للطفل وأسرته. ولكن المشكلة أن نظام الابتعاث في السعودية لا يزال محصورًا في وزارة التعليم أو وزارة الصحة، في حين أن المصابين بالتوحد يُصنفون تحت مظلة وزارة الشؤون الاجتماعية، ما يُعد عقبة بيروقراطية. ولأن تجربة بريطانيا وغيرها تُثبت أن تعليم أطفال التوحد هو جزء من العملية التعليمية، فمن المنطقي أن يُدرجوا تحت وزارة التعليم وأن يُمنحوا بعثات دراسية.

وإلى حين إنشاء مدرسة سعودية متكاملة بنظام عالمي وطاقم مؤهل، يُقترح توجيه ميزانية الدعم الحكومي إلى برامج الابتعاث نحو مدارس متخصصة في أمريكا أو أوروبا.

أما الجهات التجارية المستفيدة من هذه الفئة، فينبغي أن تُنشئ مراكزها ومدارسها على حسابها الخاص دون دعم حكومي، ويُترك القرار بعد ذلك للأهالي لاختيار ما يرونه الأفضل لأبنائهم.