اجتمع البعث برئيسه وحاشيته المركزية قبل أيام في دمشق، عاصمة تأسيس الحزب وانطلاقته؛ اجتماع لم يكترث له أحد إلا من جمعتهم القاعة ليستمعوا لخطاب أمينهم العام الذي أعيد انتخابه بالإجماع في نهج استمر عليه الحزب وايديولوجيته القائمة على تفريخ وصناعة وإدامة نماذج من الديكتاتورية، التي حكمت بقبضة من حديد ونار بغداد، وما زالت تحكم بذات القبضة دمشق.

منذ تأسيسه، سعى البعث للوصول إلى السلطة عبر عسكر الجيش وضباطه، كقوة قادرة على فرض أفكاره وتسويق نهجه، وضامنة لاستمراريته، مستحضراً نموذج انقلاب جمال عبد الناصر وتنظيمه "الضباط الأحرار" في مصر؛ النموذج الذي مثل للحزب بيئة خصبة لنمو شعبيته. وبمراجعة تاريخية لمسار فكر البعث ومد القومية في الوطن العربي، وما تلاه من إرهاصات تآمر وصول الحزب بفرعيه العراقي والسوري إلى الحكم، نلمس مدى وحجم العنف والقمع والاستبداد كأدوات ساهمت سريعاً باعتلاء الحزب سدة الحكم في البلدين.

أدوات الحزب قبل وصوله للحكم لم تختلف كثيراً عن أدوات تثبيت أركانه في الحكم، بل ساهمت في دخول الحزب في متاهة الجمود الفكري ورتابة المعتقدات والمبادئ، فلم يعد الحزب قادراً على إنتاج وتطوير أفكاره بما يتناسب مع التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة، خاصة بعد قصور مؤسسه ميشيل عفلق عن تحويل أيديولوجية الحزب من أفكار وعناوين فضفاضة إلى استراتيجيات معمقة قادرة على فرض آليات تحقق مقومات الدولة الحديثة في العراق وسوريا، فأصبحت الدولة البوليسية رويداً رويداً هي السائدة باسم القومية؛ دولة قائمة على حكم الفرد المستبد، والتي تهتز أمام كل حركة احتجاجية شعبية لا تستطيع أن تحتويها.

إقرأ أيضاً: صراع خفي على مركز الوسيط الأول في حرب غزة

نظريات الثورية ومنطلقاتها التي تبناها الحزب اصطدمت بواقع خلافات العسكر، واستنزفت الحياة السياسية بسطوتهم وشهوتهم للسلطة، فلم يتسنَّ للبعث إعداد القيادات للخروج من أزماته، كونه أصبح يفتقر إلى نوعية القيادات المستمدة من طبقات مختلفة داخل المجتمع، والتي وان تسلل بعض منها من خارج البوتقة الأمنية إلى المشهد السياسي العام، تبقى رهينة وخانعة لقيود السيطرة البوليسية وأجهزتها في الدولة.

لقد انحدر البعث وتقزم فكره ليلائم مقاس الأنظمة القمعية؛ صدام حسين وحافظ الأسد وابنه من بعده، الذي سار على نموذج والده القمعي أمام حقوق الشعب العادلة للحفاظ على حكمه وبقايا حزبه واصطفافه الإقليمي والدولي، فكان سيرك البعث الأخير، حيث قدم أمينه العام خطاباً هزلياً بلغة ركيكة بنظريات مستهلكة وبتنظير شعارات بالية لا تتناسب مع قضايا المرحلة الراهنة ولا يليق بتاريخ وعراقة وثقافة العاصمة التي يتصارعون بدموية مع شعبها.

إقرأ أيضاً: المعركة السياسية الفلسطينية- الأميركية في الأمم المتحدة

بعد عقود من تأسيسه، لم يبقَ من البعث بسياساته وساسته دول ليحكمها، فالعراق انتهى باحتلال أميركي أنشأ حكماً طائفياً يُسيره نفوذ إيراني، أما سوريا فلم يبقَ احتلال إلا وانتهك سيادتها وأرضها؛ فالوجود الأميركي والروسي والتركي والإيراني وحتى الإسرائيلي الذي يقصفها بالليل والنهار، جعل من بشار الأسد وبعثه أشبه برئيس مليشيا إيرانية مثله كباقي مليشيات المحور الإيراني.

أما بقايا جيوب البعث المبعثرة في بعض الدول العربية، فبقيت لتمارس بيانات الندب والنوح على قومية لن تتحقق في ظل رسوخ مفاهيم ونظريات الدولة الوطنية في المنطقة.