75 عاماً عاشها بين قصور الرياض الطينية، في عهد جده المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز، تلك البيوتات المباركة التي انطلقت منها أكبر نهضة حضارية عاشتها المنطقة، وبين شواطئ جدة الساحرة التي كتب فيها روائع الشعر السعودي الحديث في البدايات، وانتقالاته المليئة بغصات الغربة بين الإسكندرية حيث مدرسته المرموقة فكتوريا التي بدلت ثوبه وغترته بربطة العنق والقميص، ولكنها لم تمحُ بداوة متأصلة من داخله، وانتقل بعدها بين بريطانيا وأميركا للدراسة، وإن زادت في إجادته للإنجليزية، إلا أنها أثرَت مخزون المشاعر وإمكانيات التعبير اللغوي باللغة العربية وبلهجة سعودية، عرف بدر وبدر وحده أن يجعلها أنيقة ورشيقة ليس شعراً ونثراً فقط، بل حتى وهو يتحدث إلى أخيه أو صديقه.

بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز الرجل الذي أحدث في كل يوم من أيام عمره شيئاً مختلفاً، أقل هذه الأشياء أنه فكر خارج الأسوار، وتخيل ما لم يتخيله غيره، وكتب ما لا يتوقعه قارئه، جاء مختلفاً، وعاش متألقاً، ورحل خالداً!

هو بدر بن عبدالمحسن الذي لن أوفيه حقه مهما كتبت، هو من علمنا بلغتنا وبكلماتنا المتوارثة أن نعبر، ونطرب، ونحب، ونغامر.. نعم هو من أخذ المشاعر من القلوب وصاغها بكلمات، وزفها في عرس إبداعي إلى الأوتار والحناجر لتعبر عنّا، وهو السعودي الأول الذي لا يشبهه أحد سواه، تماماً كما كان شكسبير الإنجليزي الأول، وفولتير الفرنسي الأول، كل في فنه ومجاله وتأثيره على مجتمعه الممتد من عصره وحتى هذا العصر.

لن يذهب بدر كما لم يذهب من سبقوه في عصور غابرة، ولكن لبدر أسباباً في الحضور المستمر والخلود الدائم بأنه كتب بشكل مختلف، وفكر بطريقة مختلفة، والأكيد بأن بدراً لم يحظَ بالمجاملة الثقافية كونه أميراً ينتمي للأسرة المالكة، وباعتقادي وبجزم كل من عرفه بأنه سيكون خالداً في الذاكرة الوطنية السعودية، حتى لو كان فقيراً معدماً ينتمي لأسرة متواضعة، ولكن إمارة البدر أعطت حضوره هيبة لا تليق إلا به.

الأمير لم يُلبس أشعاره "المشلح" ولم يعطِ أفكاره الصدارة، بل أخذ التقدير والإعجاب والدهشة من قلوبنا وعقولنا وألسنتنا، كان مبهراً لأنه لم يكتب حرفاً ليرضينا، بل ليرضي فكره وذائقته.

بدر قبل رحيله كان يشكو بأنه نضب، وبأن ليس لديه ما يعطيه، وبأن لياقته لم تعد كما كانت، ومع ذلك كان لا يقبل بالقليل، ولا ترضيه أي مفردة، ولا تملأ عينيه سوى الجزال الحسان.

منذ أزمته الصحية الأولى كان يتكئ على عكازه وبداخله حصان جامح، مرَّ عبر الزمن بكل الفصول والأحداث، متكئاً على إرث ثقافي هائل كوَّنه من الداخل، وجعله صلباً يخبئ في داخله بدراً خجولاً رقيقاً، يكتب داخل قفصه الصدري المنهك، ويُخرج روائع تدهش، وتجعلنا نطلب المزيد.. بعد مولاي الملك سلمان لن تجد سوى بدر يحدثك بتمكن ومعرفة دقيقة عن تاريخ الأسرة المالكة، وعندما يتحدث لا تريده أن يتوقف، قادر على تصوير كل الأحداث وكأنك تشاهد ملحمة مسرحية شيقة.

بدر برغم كل المساحات كان يشكو من الضيق؛ لأن بداخله عملاقاً لم يخرج، وكان مع نهاية كل عمل على الأقل حسب شهادتي وما روي لي يعتقد بأن هناك شيئاً أفضل لم يظهر، كان موسيقياً عظيماً ومخرجاً له نظرة ثاقبة وسيناريست لا يماثله أحد.

كان الثقافة والفنون بكل معانيها، وكان السعودية بكل تفاصيلها، وكان الولاء والانتماء والحلم والطموح بكل ما تعنيه الكلمات، وكان المؤمن جداً وبشعور غامر برؤية سيدي سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويتحدث عنها بحب وفهم وعمق قلَّ أن يعبر عنها أي أديب كما كان بدر، للأنه قرأ الماضي وعاش جزءاً منه وتفاعل مع الحاضر وصنع حضوره فيه وينتمي بكل شغف للمستقبل الزاهر الذي نعيش مقدماته.

الأمل في مؤسسة بدر بن عبدالمحسن، والعمل يجب أن يستمر، والحلم يجب أن يبقى...