سمير قصير
&
لم يكن من السهل يوماً تناول السياسة السعودية. فعلى مر العقود، وخصوصاً منذ الطفرة النفطية، كان على العربي الذي يريد الكتابة بشيء من الاستقلالية عن السعودية ان يواجه واحدة من مشكلتين: اما الرقابة غير المباشرة، ولكن الفاعلة جداً اذا كان كلامه نقدياً، واما شبهة التملّق والاستجداء اذا عثر على ايجابية واراد اظهارها. وفي الحالين، كانت قدرة الردع و/او الاغراء التي مثلتها الشبكة الاعلامية السعودية، وجلّها غير منظور، كفيلة بأن يعزف المرء عن مراده فيبتعد عن "الشر" ولا يغني له.
لكن الامور الى تبدل على ما يبدو، كأن "الجرح" الذي اصاب السعودية، دولة ومجتمعاً، بعد احداث 11 ايلول، والذي يعمّقه وضعها تحت مجهر الاعلام الغربي، يساهم في تقاربها مع مجتمعات عربية اخرى اثخنتها الجروح، او انه على الاقل يخفف من التحفظ اللاشعوري المتحكم بالنظرة، اي نظرة، الملقاة على مملكة النفط. ولعل الاختبار الذي تخوضه الديبلوماسية السعودية منذ الاعلان عن مبادرة الامير عبدالله اكبر امتحان لهذا "التطبيع" في صورة المملكة (بمعزل عن "التطبيع" الآخر موضوع المبادرة). طبعاً، التغيير لا يزال في بدايته، ولا عجب ان اتت بعض ردود الفعل على جاري العادة التبخيرية. الا انه من شأن النقاش الذي تستوجبه هذه المبادرة ان يدفع الى اعادة نظر في القراءة السياسية السائدة لانقسام العرب بين دول "غنية" واخرى فقيرة.
للامانة، ليست مبادرة الامير عبدالله اول اطلالة "فلسطينية" للسعودية. بل يمكن القول، على العكس، ان المملكة واكبت تقريباً القضية الفلسطينية منذ تأسيسها . فقد شارك وفد سعودي برئاسة الامير فيصل في مؤتمر لندن عام 1939 اثر الثورة الفلسطينية الكبرى، وبعد ثمانية اعوام، في ،1947 كان الامير نفسه واحداً من الذين دافعوا عن الموقف العربي الرافض لمشروع التقسيم امام الجمعية العمومية للامم المتحدة في لايك ساكسس. وعندما انطلقت المقاومة الفلسطينية، حظيت حركة "فتح" بدعم مالي من السعودية، وكان الامير فيصل قد اصبح ملكها. غير ان مفاعيل "الحرب الباردة العربية"، كما سمّاها مالكولم كير، انعكست على الالتزام السعودي بالقضية الفلسطينية، او على الاقل على صورة هذا الالتزام، اذ وضعها الصراع مع عبد الناصر على تضاد مع الاطراف العرب المنخرطين في المواجهة. وحتى بعد المصالحة التي تلت هزيمة ،1967 ظل الاصطفاف بين "الدول الرجعية" و"الدول التقدمية" يلقي بظلاله على السياسة الخارجية السعودية في ما يتعلق بالصراع العربي - الاسرائيلي، وان لم يمنع استمرار الدعم المعطى لحركة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية.
واذا كانت المملكة قد اعطت اسمها لمرحلة من التاريخ العربي افتتحها غياب عبد الناصر وكرّسها رفع اسعار النفط عام ،1973 وهي التي عرفت ربما تجاوزاً بـ"الحقبة السعودية"، الا ان الرياض بدت على الدوام كأنها تحاذر العمل في الواجهة، رغم انها ساهمت في عدد من القرارات الحاسمة، منها الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، ثم رفضت مبادرة انور السادات. وربما كانت المرة الوحيدة التي خرجت فيها السعودية الى الصف الامامي كانت خلال حرب 1973 مع دخول مفهوم "سلاح النفط" قاموس العلاقات الدولية، لكن استتباب النظام الاقليمي المرعي اميركياً، بعد فك الارتباط على الجبهتين المصرية والسورية وزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون الى كل من القاهرة ودمشق والرياض، حالا دون اختبار هذا السلاح بشكل جدي. وبقيت السعودية، في عز الحقبة التي وصفت باسمها، تقف دون موقع الريادة. حتى ان المشروع الذي اعلنه الامير فهد صيف ،1981 بالتنسيق مع ياسر عرفات، افتقر الى آلية تتيح تبنّيه من الدول العربية الاخرى. ويُذكر ان قمة فاس انقسمت حوله فعلّقت اعمالها ولم تلتئم مجدداً الا بعد حصار بيروت، ولم يكتسب اقرار خطة فهد الاهمية العملانية نفسها رغم انها اصبحت رسمياً "المشروع العربي للسلام". ولعل اكبر دليل على عزوف السعودية عن الاضطلاع بدور الريادة تمثّل في امتناعها عن الدعوة الى القمة العربية العادية التي كان يفترض ان تجتمع في الرياض عام ،1983 علماً ان تعقيدات الحرب الايرانية - العراقية كانت آنئذٍ العقبة الاساسية، وتلتها بعد نحو عقد من الزمن الانعكاسات المدمّرة لحرب الخليج الثانية.
ان المقارنة بين مشروع الملك فهد ومبادرة الامير عبدالله هي تحديداً ما يفيد عن تبدل في نظرة السعودية الى نفسها، وربما في نظرة الآخرين اليها. بمعزل عما ستؤول اليه هذه المبادرة، والاصح انها مشروع مبادرة، خلال قمة بيروت، ثمة فرق مهم يتمثل في النشاط الديبلوماسي الذي تبع اعلان ولي العهد والذي جعل من الرياض عاصمة الصراع العربي - الاسرائيلي هذا الاسبوع. وكأن المملكة قررت ان تأخذ على عاتقها اعادة تحريك عملية السلام بتفعيل العمق الاستراتيجي للطرفين العربيين المعنيين مباشرة بالتسوية، اي السلطة الفلسطينية وسوريا، بل بالاعلان على الملأ انها جزء من هذا العمق الاستراتيجي.
وايا تكن دوافع هذا القرار، وما اذا كانت تتصل بالحساسية الخاصة التي يتسم بها الامير عبدالله حيال الموضوع الفلسطيني، والتي كان عبر عنها بامتناعه عن زيارة واشنطن في الربيع الماضي، او بسعي لتحويل الاهتمام الاميركي من الداخل السعودي الى فضاء الصراع العربي - الاسرائيلي، فان المفارقة جديرة بأن تلاحظ: في اللحظة التي لم يعد ممكناً التكلم عن "حقبة سعودية"، ها هي المملكة تبادر الى ما طالما احجمت عنه، وفي ذلك اهمية مزدوجة بالنسبة الى القمة العربية المقبلة. فبالاضافة الى المعنى الذي سيكتسبه عرض السلام العربي، وإن تأخر عشر سنين، قد تكون قمة بيروت نقطة البداية في ديبلوماسية عربية جديدة، بعد ان يكون الجميع قد نزلوا من عليائهم.(عن صحيفة&النهار اللبنانية)