أسامة العيسة من القدس: يرصد المفكر الفلسطيني خليل السكاكيني (1878 - 1953) في يومياته التي كتبها في أثناء الحرب العالمية الأولى، من موقعه كمواطن ومثقف يعيش في مدينة القدس آنذاك، كيف لجأ العثمانيون، إلى إعلان الجهاد على دول الاتفاق الثلاثي، لتهييج وتعبئة الجماهير مستغلين العواطف الدينية لأسباب سياسية.
غلاف الكتاب |
ويكتب السكاكيني عن ما شاهده في القدس في مثل تلك الظروف quot;كنت أرى كثيرين من الألمان مبثوثين بين الناس يحادثون الشيوخ، يتركون الواحد ويمسكون الآخر، بقصد أن يستميلوهم إلى ألمانيا وينفرونهم من غيرهاquot;.
وينشر العثمانيون الشائعات وسط الناس، بان ألمانيا اعتنقت الإسلام، وأنها ستقاسم تركيا كل البلاد التي ستفتحها، وربما الأهم والأعجب ان إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني سمي محمدا، وانه سيذهب إلى الحج، لاداء الفريضة في مكة. ويذكر السكاكيني مقطع من الأهازيج التي كان يرددها الفلاحون حين يتوافدون إلى القدس للخدمة العسكرية quot;غليوم يا خالنا، بسيفك نأخذ ثارناquot;. ولتأجيج المشاعر، كانت تبث أقوال مثل أن المسيحيين في حرب البلقان، كانوا يغتصبون المسلمات، ويقطعون أثداءهن ويبقرون بطونهن، ويقذفون أولاد المسلمين في الهواء، ويتلقفونهم بالسيوف والحراب، مما يذكر ببعض ما يتداول من شائعات في بعض البلدان في اولى سنوات القرن الواحد والعشرين.
ويرصد السكاكيني، تأثيرات مثل هذه الدعاية، واستغلال فكرة الجهاد على المجتمع المحلي الذي ينوء من ثقل الحرب، حتى يصل الأمر إلى ما اخترعه العثمانيون والألمان من مسألة العلم النبوي.
فما هو هذا العلم النبوي؟ علم قال العثمانيون والألمان انه علم النبي محمد (ص)، ونظم هؤلاء مواكب واحتفالات للعلم، في ربوع البلاد التي تسيطر عليها الدولة العثمانية، للتأثير على مشاعر الناس الدينية، والهاب حماسهم لحرب، لم يكن لهم فيها أية مصلحة.
وفي 20 كانون الأول (ديسمبر) عام 1914، وصل العلم النبوي إلى القدس، ويذكر السكاكيني في دفتر يومياته عن هذا اليوم quot;لم تشرق الشمس إلا وقد خرجت القدس بأسرها لاستقبال العلم النبويquot;، أما هو فخرج مع الباحث الفلسطيني اللامع عادل جبر، وفخري الحسيني وشقيقه الحاج أمين الذي سيتزعم فيما بعد الحركة الوطنية الفلسطينية التي منيت بهزيمة كارثية عام 1948، ومع ذلك بقي قائدا لها، ومثلما هزج الفلاحون لغليوم هزجوا للحاج أمين بعد ذلك بسنوات:
quot;سيف الدين الحاج أمينquot;.
يقول السكاكيني quot;مشينا معا على طريق رام الله حتى أطللنا على قرية شعفاط، حيث كانت كوكبة من الخيالة من القدس ولفتا وأبو غوش وبعض القرى المجاورة يلعبون على خيولهم، ولم نلبث حتى اطل موكب العلم تتقدمه ثلة من الفرسان وهم يهللون، فاشترك الناس في التهليل والتكبير، ثم جاؤوا إلى خيمة مضروبة أمام دار راغب بك النشاشيبي، حيث كان كبار المسلمين ووجهاؤهم ينتظرون العلمquot;.
ويضيف السكاكيني أن الناس لما رأوا العلم quot;اندفعوا يقبلونه ويتبركون به وهم يزحمون بعضهم بعضا ويضجون بالتهليل والتكبير، وكان جمال بك حاملا العلم والى جانبه بعض الضباط الألمان، ولست ادري ماذا كانت تاثراتهم من ذلك المشهد، هل ضحكوا في سرهم من انحطاط الشرقيين أم استشفوا من وراء التكبير والتهليل قوة هائلة يستطيعون أن يعتمدوا عليها وليستفيدوا منها؟quot;.
وتتبع السكاكيني مسيرة العلم إلى الحرم القدسي الشريف ووصف ذلك quot;ثم سار الموكب يتقدمه العلم والناس ينضمون إلى الموكب حتى صاروا ألوفا وكلهم يهللون ويكبرون وقبل أن يصلوا إلى الحرم كان اليهود قد وقفوا له على الطريق ليحيوه، أما أنا فقد كنت انظر واسمع وافكرquot;.
بماذا كان يفكر السكاكيني؟ وماذا كان يدور في خلده وما تمثل في خاطره وما تراءى لناظريه؟ لخص السكاكيني ذلك بعدة ملاحظات منها quot;لم يكن العلم قديما بل جديدا كأنه صنع من عهد قريب جدا، فلم يشك أحد انه لم يكن العلم النبوي، بل هو مرسل من الآستانة إلى مكةquot;.
وكتب أيضا وهو العارف والعائش ظروف الناس في تلك الأيام المريرة حيث انتشر الجوع quot;كان يقال: ان الشرق لا يعرف للوطنية معنى، ولكن العاطفة الدينية فيه شديدة التأثر، وكأن الحكومة تعتقد ذلك بدليل إعلانها للجهاد الديني، ولكن من درس أحوال الشرق اليوم، يرى ان الانحطاط الذي صار إليه الشرق من أجيال، قد افسد حتى هذه العاطفة الدينية، فلو استطاع المسلم ان يسرق هذا العلم وبيعه لما تأخر، وان كان هناك من كانت عاطفتهم الدينية صحيحة قوية، فانهم قليلون جداquot;.
وعندما وصل العلم، أو راية النبي كما سماها العامة، كانت برفقة شيخ قدم للناس باعتباره مفتي الشافعية في مكة المكرمة. وبعد خمسة أيام من مكوثه في القدس، توفي مفتي الشافعية، ويعلق السكاكيني على ذلك في يوميته التي كتبها يوم 25 كانون الأول (ديسمبر) 1914 quot;لعل الشيخوخة وتعب الطريق وبرد القدس في مثل هذه الأيام قضت عليهquot;.
وبقي العلم المنسوب للنبي، في القدس حتى يوم السبت 9 كانون الثاني (يناير) 1915، وفي مذكراته عن هذا اليوم كتب السكاكيني quot;سافر اليوم الجند ومعهم العلم النبوي إلى الجنوبquot;.
ومنيت الجيوش العثمانية بهزيمة ماحقة، ولم ينقذها استغلالها للدين، من السقوط وما زال فلاحو بلاد الشام يذكرون تلك الحرب التي أسموها (السفر برلك) التي أعلنت فيها الإمبراطورية الجهاد، بابشع الصور، وما زالت بلادهم يضربها وباء استغلال الدين، وهم لا يكفون عن تأليف الأهازيج.
التعليقات