لقد كثر الحديث في السنتين الأخيرتين عن التقنية الرقمية ودورها في تأسيس أفق جديد ضمن آفاق الإبداع الأدبي الروائي تحديداَ، ولا أريد أن أصادر مبادرات من كتب حول هذا الموضوع إلا أن الحقل المعرفي يتسع لكتابة المزيد خصوصاً في وقت يشهد إدعاءات وتبشيرات أطراف كثيرة عن بلورة أو بزوغ عصر إبداعي جديد يزاوج مابين التقنية الرقمية والإبداع الروائي، وانطلاقاً من هذه المنطقة المؤثثة بأدغال الغموض والإلتباس أحاول أن أمهد لمراجعة جملة حقائق معرفية يكاد أن يكون معظم المعنيين بالشأن الأدبي والهم الروائي تحديداً على دراية إن لم نقل على بينة منها. الإبداع الأدبي الروائي مثلما هو معروف مرتبط أساساً بكل من الفكرة (الثيمة) والرؤية الفلسفية التي تشكل المنظور الدلالي للمعالجة من خلال مجموعة أدوات فنية تطورت تباعاً مع تطور اللغة بكل مستوياتها الشكلانية والبنيوية والتفكيكية.
وحتى تكون المراجعة أكثر تأشيراً لتلك الحقائق ضمن حافتي الغموض واللبس علينا أن نميز بين المنتج الأدبي وبين أدواته، وأن لاتكون العلاقة مؤسسة على فهم خاطئ لماهية الابداع الأدبي، الإبداع رافق الكينونة ورافق الحس وتجلى من خلالة، الابداع نتاج ماكنة مرهفة فاحصة محللة، الابداع اشعاع لأقباس فكرية حفزتها حركة الفعل الحياتي والبشري، وأثرتْها احداثيات التفاعل الحسي والأيديولوجي مع رنين المنبعث الآني صوب الماضي والمستقبل، وقبل أن تكون الكتابة كان الأبداع أنساق سيمولوجية، فكانت الرقصة وكانت الصرخة، كانت الرموز والأوشام، كانت التراتيل والأدعية، إنما صيغة المبتدع ظلت أبداً هي الجوهر والوسيطة التي تتبنى التوصيل قابلة للتطور والتغيير، ومع تطور أنماط وأشكال الوسائط صار الابداع اكثر بريقا وتموجداً مع حركة الفعل الحياتي، أو لنقل مع تطور وسائط تمثيل المنتج الأدبي صار المنتج أكثر تداولاً وتأثيراً، وحينما دخلت الطباعة كأحد الوسائط المهمة في تمثيل االمنتج ساهمت في أيصال الفكرة المكتوبة بشكل كبير وفعّال إنما بقي الحرف والجملة هما التشكيل الأساسي للغة الابداع الروائي، ولم يفكر أي من المبدعين في اعتماد التقنية الطباعية المتطورة كشكل من أشكال الابداع الأدبي، إنما تبقى تقنية تضاف لسجل الأبداع التكنلوجي، وتسهم في خدمة المنتج الابداعي.
واستمر الحال وكان المنتج الأدبي الروائي يعكس دوما تجليات الابداع من خلال تلك الحركة المستمرة لمجسات الفكر الحاذقة التي تتلمس أرضية واهداب الواقع وتتحرى فضاءات المتخيل والمفترض، كانت حركة نحتية دؤوبة في جسد المكان والزمان، تشك بأدق البنى والأنساق وتفترض المشاكسة لتنتج المختلف والمغاير، فتارة كانت تنسج الابداع تداعيا بنيويا للفكرة وتارة أخرى تختزن الإنفعال وتصوبه في اتجاهات وجدانية وحسية ترصد لهاث هذا الكائن الممسوس بالاستفزاز، وفي كل المستويات الابداعية كانت الوسائط غائبة عن ذاكرة المبدع، لانها لاتمثل له إلا عربات عادية لنقل المنتج الأدبي لساحات التداول المعرفي والفكري، فتارة تتخذ الوسيطة شكل ماكنة طباعة مؤثثة بقدرات وكفاءات طباعية عالية الجودة، وتارة أخرى تتخذ الوسيطة شريط مايكروفيلم يختزن في ذاكرته المنتج الأدبي وفي أحيان أخرى تأتي الوسيطة قرص مدمج أو حركة (أنيميشن) كمبيوترية تمزج مابين المعنى الكتابي والمعنى الإشاري بحركة ومضية أو رنين صوتي، وفي كل هذه الأوجه لاتشكل اللغة الرقمية المتداولة في عصر العولمة إلا واحدة من هذه الوسيطات المتطورة التي تسهم في نشر الابداع وتيسيره لا أكثر. فالأبداع الأدبي الروائي لاتنتجه الماكنة الرقمية بل تنتجه ماكنة العقل البشري، وكل مراحل كينونته يحتويها الفكر الانساني قبل ان يطرحها بهيأة منتج فكري أبداعي لتأتي الوسيطات الناقلة سواء كانت رقمية أو حرفية بكل ما تمتلكه من قدرات فنية وكرافيكية لتدونه بشكل من الاشكال وحسب ما متداول من أدوات تكنلوجية متيسرة.
واذا افترضنا أن ماتقدمه (المالتميديا) أو الوسائط المتعددة هو شكل من اشكال الابداع الروائي، فماذا يمكن أن نصف حالة هذا الابداع إذا ما قامت شركة مايكروسوفت للبرمجيات وانتجت بعد سنة أو سنتين أجيالاً جديدة ضمن تقنيات أكثر تطورا بحيث ترفض العمل مع هذه الوسائط التي ساهمت في تأسيس الوجه الجديد للابداع الروائي، ترى في هذه الحالة هل على الأديب الرقمي أن يتبرأ من إبداعه السابق الذي أصبح الآن إبداعاً متقاعدا بلغة التقنية الرقمية؟ .
في حقيقة الأمر أن هناك لبساً كبيرا في فلسفة التعامل مع التقنيات الرقمية وتوظيفها لخدمة المنتج الأدبي والإبداعي، فالجميع يدرك أن الأبداع الأدبي غير خاضع لسلطة الأدوات التي تساهم في نشر وتيسير المنتج الإبداعي سواء كانت هذه الوسائط أو الأدوات تقنيات طباعية متقدمة أو وسائط برمجية، أما أن نطلق على نص مكتوب بلغة عادية وربما حكائية نصا أبداعيا لمجرد أن هذا النص تمت معالجته وفق مجموعة مؤثرات برمجية فهذا ما لايمكن قبوله من حيث المنطق الذي يفسر أسس الأبداع وتداعياته، الابداع التكنلوجي ابداع قائم بذاته ومن الممكن الاستفادة من خدماته في الكثير من المجالات ومن الممكن أيضا أن يساهم وبشكل فعّال في تطوير تلك المجالات من خلال مزاياه التي توفر الكثير من الدعم، فقط الأبداع الادبي لايمكن أن يستند بأي شكل من الأشكال على ذكاء الماكنة، لان الابداع الأدبي تبدعه ماكنة العقل وتجسده ضمن أبعاده الفلسفية قبل أن تسمح للماكنة الرقمية بنشره وتيسيره للتداول، ولاأضن أن (المالتميديا) تسهم في إنتاج انساق لغوية ضمن بنيات جديدة من شأنها أن تسهم في انتاج نص حداثي يطرح رؤية فلسفية جديدة، ربما يرى الآخرون جزءاً من هذه الحقيقة.
التعليقات