لم أعد أذكر اسم ذلك العالم الذي قال: (على كل إنسان متحضر أن يقول: إن لي وطنان. الوطن الذي أعيش فيه، وسوريا). فسوريا إذن أصل الحضارة، والبلد الأول للإنسان، منها انطلق، واعتنق، وبنى البلدان. وأوروبا التي كانت في بحر من الظلمات أخذت حضارتها عن سوريا، دون أن نبخس مصر حقها، واليونان. فمنذ الألف التاسعة قبل الميلاد استصلح السوري الأرض، واستقر فيها، وبنى في العالم أقدم المستوطنات الزراعية- تل المريبط في حوض الفرات.
ولا بد أيضا لكل إنسان يتصف بالصدق والموضوعية- مهما كبرت أو صغرت درجة قصر أو مد النظر لديه- أن يرى تلك الفسيفساء البشرية السورية، وتناغمها وتآلفها بالرغم من تعدد ألوانها وأشكالها ومشاربها. وأن يقر كذلك بأن سوريا ملاذ الهاربين من أوطانهم خوفا من الموت، أو من جحيم التمييز والاضطهاد القومي والديني والسياسي. ووطن من لا وطن لهم يلجأون إليه. فتحت لهم أبوابها واحتضنتهم وأمَنتهم وصاروا جزءا منها، ولن نذكر أواخر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. بل الأزمان الأخيرة، وخير شاهد، العراقيون الذين لم تُفتح لهم أبواب دولة عربية، كما فُتحت لهم أبواب سوريا. وأيضا الفلسطينيون الذين لم ينالوا حقوقا كما نالوها في سوريا، فمنذ (1948) وهم جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والوظيفي السوري.
ولا بد أيضا لكل علماني يدافع عن حقوق المرأة، ويسعى لأن تنال المرأة العربية حقوقها، أن رأى أن المرأة السورية منذ سبعينيات القرن الماضي، قد أصبحت شرطية وجندية وقاضية في سلك القضاء، ونائبة في البرلمان، وسفيرة، ووزيرة، وحاليا نائبة للرئيس. مكافئة ومساوية للرجل- بموجب القوانين والتشريعات- في كل الميادين وعلى كل المستويات. فهل من دولة عربية سوى تونس نالت المرأة ما نالته في سوريا من حقوق؟
كما لا بد لكل علماني يطالب بفصل الدين عن الدولة في البلدان العربية، ولكل حقوقي يطالب بحرية الاعتقاد وحق ممارسة الشعائر الدينية للمواطنين، أن رأى أيضا مدى حرية التعبير الديني التي يتمتع بها المواطنون السوريون، وبموجب القانون، والتي لا مثيل لها- وأشدد على القول- لا مثيل لها في بلد عربي آخر. فلا قيود على ممارسة الشعائر، ولا قيود على الاحتفالات والمظاهر الدينية لكل الملل والنحل، وما أكثرها في سوريا. ولا قيود على بناء دور العبادة، ولا انتقاص ولا تهميش ولا اتهام ولا تكفير لأتباع أي مذهب أو دين، فلهم جميعا الحقوق نفسها، وعليهم الواجبات ذاتها. كما لا يوجد أي تمييز في الوظائف الحكومية أو العسكرية أو في التعليم والبعثات التعليمة بسبب المذهب أو الدين، حتى أن خانة الديانة غير موجودة في الوثائق الرسمية.
كما لا بد لكل من يحارب الأمية في البلدان العربية، ويسعى للقضاء عليها، أن يلاحظ أن نسبة الأمية في سوريا هي من المعدلات المنخفضة جدا، قياسا لأكثرية الدول العربية، ونستطيع القول أنه من النادر أن تجد في سوريا رجلا أو امرأة دون الأربعين لا تقرأ وتكتب. وكل ذلك بسبب مجانية وإلزامية التعليم. أما مستوى المعيشة فهو خير من كثير من الدول العربية، بما في ذلك بعض المناطق في دول الخليج.
قديما قيل: إن السياسة لا دين لها. وإن السياسة حيلة ثعلب أو تلوّي أفعوان. لكنها في كل زمان ومكان فن تحقيق المصالح. وعليه فالعلاقات بين البلدان العربية والأجنبية تقوى وتضعف، وتسخن وتبرد، وفقا لمصالح هذه الدول. والسياسيون ليسوا كدعاة التنوير المفكرين العلمانيين. وطغيان والدوافع الذاتية، أو التجاذبات السياسية، والاصطفاف هنا أو هناك، يُفقد الداعية العلماني بوصلته، ويصيب بالخلل ميزانه، ويُفقده موضوعيته. فيتحول إلى سياسي مصلحي، يقبل هنا ما يرفضه هناك، ويعادي فكرا وجماعة في منطقة، ويمهد لهم في منطقة أخرى. متجاهلا إيجابيات التشريعات في دولة ما، وسلبياتها في دولة أخرى، ساعيا إلى تصيّد الأخطاء وفقا لدوافعه واصطفافاته، فلا يركز بصره إلا على سلوك موظف هنا، ومطرب هناك.
ليست الدول جمعيات خيرية. ولكل دولة مصالحها التي تسعى لها. و(مصر) لا تهادن حماس أو تعاديها إلا إذا رأت مصلحة في ذلك. و(صدام) تعاون مع أمريكا وعاداها طبقا لمصالحه. و(ابن لادن) تحالف مع أمريكا عندما اتفقت مصالحهما، وافترقا عندما افترقت هذه المصالح. أما أمريكا فقد ألقت على اليابان قنبلتين نوويتين ودمرت مدينتين على من فيهما، لكنهما الآن أحباب وأصحاب. وبين دول المحور والحلفاء قامت حروب عالمية أودت بعشرين مليون ضحية، إنما تناسيا هذه الحروب وتلك الضحايا، وتحالفا، عندما اقتضت الضرورة ذلك.
ماذا يريد هؤلاء quot;العلمانيون المسيّسونquot; المتحاملون على سوريا، من سوريا؟ ماذا يريد هؤلاء الذين لا يرون عيبا في أي بلد عربي، سوى سوريا؟ وكأن تهريب الأطفال يتم من سوريا أو إلى سوريا.! أو كأن ممارسات الكفيل ضد العمالة العربية تحدث في سوريا.! أو كأن كل ما يطالب به هؤلاء المسيّسون، وكل ما كتبوا ويكتبون من أجل تحقيقه، قد تحقق في كل الدول العربية، باستثناء سوريا.! أو كأن الديمقراطية في أبهى صورها وأحسن مضامينها بين العربان، ما عدا سوريا.! وأصوات المعارضين مسموح لها أن تهدر وتلعلع في كل الكيانات العربية، إلا في سوريا.! أو كأن المرأة مظلومة مضطهدة في سوريا.! بينما هي من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر نالت كل حقوقها، وخرجت من كيسها الأسود، وأصبحت كاملة العقل والدين، مكافئة للرجل.! أو كأن القضاء على الأمية قد تم في كل أرض الناطقين بالضاد، والمائة مليون أمي من أمة اقرأ ولودوا في سوريا ويقيمون في سوريا.! أو كأن حرية الأديان والعبادات وممارسة الشعائر الدينية وبناء دور العبادة مقموعة ممنوعة في سوريا.! ومتاحة، وعلى هواها تسرح وتمرح ملل ونحل الشعوب العربية في باقي البلدان العربية.! أو كأن فتاوى تكفير وتحقير الديانات الأخرى تصدر من أرض سوريا.!
هل يريد هؤلاء من سوريا أن تقرع طبول الحرب ndash; وهم دعاة سلام كما يتقولون- ليرقصوا على خرابها، ويسعدوا بدم شهدائها؟ أم يريدون تقسيم سوريا إلى ولايات مذهبية وقومية وطائفية؟ يقتتل فيها الكردي والآشوري والسرياني، والسني والشيعي، والمسلم والمسيحي، والجيران والزملاء وأصدقاء الأمس، كما يحدث في العراق؟ هل يرغبون أن تستولي على سوريا جماعات التكفير والقتل والإرهاب ومن يدّعون أنهم الفرقة الوحيدة الناجية، وكل ما عداهم في النار؟ هل يسعى هؤلاء quot;العلمانيون المسيّسونquot; إلى استيلاء الجن والخرافات على عقول السوريين؟ أم إلى سلب المرأة السورية ما نالته من حقوق؟ أم أنهم يسعون إلى تدمير الحرية الدينية الموجودة في سوريا؟ ألا يرى هؤلاء ما يحدث بين المسلمين والأقباط في مصر؟ ألا يرى هؤلاء ما يحدث في العراق؟ ألا يرى هؤلاء ما حدث في الأردن، وفي السعودية، وفي نهر البارد اللبناني من قتل وإرهاب وتفجير وسفك دماء؟ ألا يرى هؤلاء quot;العلمانيون المعادون للإرهاب والمدافعون عن قضايا الإنسانquot; ما حدث في اليمن، وفي السودان، وفي الصومال، وفي الجزائر، وفي الدار البيضاء، وفي غزة والضفة الغربية؟ هل يريدون أن تؤول حال سوريا إلى ما آلت إليه حال تلك البلدان؟
إن الشعوب العربية أثنيات وقوميات وقبائل ومذاهب وأديان شتى. وانعدام الأمن والنظام في أي منطقة عربية سيطيح بالتعايش القائم بين هذه التجمعات، ويفتح الباب على مصراعيه لحروب أهلية طويلة لن تنتهي إلا بالتقسيم أو بالإبادة أو في أحسن الأحوال بسيطرة فئة على أخرى. ولنا في البلدان المذكورة أعلاه خير مثال! ويكفي الصراع على المال والسلطة كما حدث في فلسطين، ليحل بين العباد ما صنع الحداد. فالإرهاب والقتل والحرب الطائفية في العراق سببها عدم وجود دولة قادرة أو راغبة بضبط الأمن، وما بين أهل العراق من ضغائن وعداوات تاريخية واختلافات دينية قديمة العهد، وقد استعان هذا الطرف بأولئك وذاك الطرف بهؤلاء، ووفروا لمن استقدموهم الأرض والأمن والاستطلاع والمعلومات والرجال والمساعدات والإمدادات.
والخلافات في لبنان منذ الاستقلال، سببها ومصدرها الرئيسي أهل لبنان، وسكان لبنان، وتركيبة النظام والدولة اللبنانية، والتبدلات الديموغرافية. وفي كل طائفة لبنانية ألف خندق وألف زعيم وألف دكان. فمتى اتفق اللبنانيون؟ ومتى خمدت الحروب الأهلية فيما بينهم؟ (1958-1974). لا بل متى خمدت الحروب داخل الطائفة الواحدة؟ ومتى تفاهم اللبنانيون على شيء؟ ومتى استطاعوا أن ينتخبوا رئيسا لدولتهم، الذي منذ الاستقلال تقرره لهم الدول الأجنبية: الفرنسية والأمريكية والعربية!
أخيرا ماذا نقول، وقد عاش بعض هؤلاء المتحاملين على سوريا، في سوريا. وعرفوا أهلها، واستظلوا بأمنها، ونعموا بخيراتها. وأدركوا كم عانت سوريا، وكم اكتوت- قبل كل العرب- بنار الإرهاب وفتاوى القتل والتكفير، فهل يريدون أن تعود تلك الجماعات لتعبث بحياة سوريا، وحياة شعب سوريا؟
لن نقول لهم سوى ما قاله السيد المسيح لصالبيه: يا رب اغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف، تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات