رغم أن كلاً من الدعوتين العروبة والخلافة الإسلامية لابد أن تصنف كدعاوى عنصرية، إلا أن العروبة عنصرية مغلقة، أي تختص بشعوب محددة تتوفر فيها ما تتصوره من مقومات، وتستبعد باقي الشعوب، لتضعها في موقع الآخر، وإن كانت الجامعة العربية تبدي تساهلاً في ضم من يروق له الانضمام لها من الدول، مثل دويلة جزر القمر وموريتانيا، والتساهل هنا في تعريف الدول العربية لا نراه من وجهة نظرنا تفريطاً، مادمنا نرى أن كل ما تسوقه تلك الأيديولوجية من مقومات أو مبررات لادعاءاتها بالأمة الواحدة لا تنطبق على أي شعب أو أي مكان، فلماذا لا يذهب سدنتها كل مذهب لتوسيع تخومها الهشة والوهمية من الأساس؟!!
أما دعوة الخلافة الإسلامية فرغم عنصريتها هي الأخرى، مادامت تضع غير المسلم من مواطني المنطقة في موضع الآخر، الذي لابد وأن يعتبر كافراً وعدواً، بخلاف دعوة العروبة التي فيها قد يكون الآخر عدواً وقد يكون صديقاً، كما كان عبد الناصر يقول: 'نسالم من يسالمنا، ونعادي من يعادينا، نشد أزر الصديق، نرد كيد العدو، لا نتحزب ولا نتعصب'، وهذا بالطبع يخفف من غلواء عنصرية دعوة العروبة، رغم أن تلك العبارات الإنشائية لا تتسق ومجمل توجه الأيديولوجية العروبية، فيما دعوة الخلافة الإسلامية تجاهر مبدئياً بالعداء الأبدي لكل العالم غير المسلم، باعتبار أرضه دار حرب، وشعوبه أعداء لله وللمسلمين، إلا أنها مع ذلك تعتبر دعوة مفتوحة، إذ تقبل بل تسعى إلى ضم الجميع إليها، والتنظير الديني لغلاة تيار الإسلام السياسي يقول أن قتال دولة الخلافة الإسلامية للعالم لن يتوقف إلا بانضمام البشرية وكوكب الأرض كله لدولة الخلافة، عبر إيمان الغالبية بالإسلام ديناً، واقتناع البقية التي لم تسلم بالانضواء تحت سلطان الخلافة، والخضوع لشروطها ونظمها الخاصة في التعامل مع أهل الكتاب والمشركين والذين كفروا.
افتراض الدين الواحد في مقولات العروبة أولاً يستبعد غير المسلمين، وينتقص بالتالي من انتمائهم الأصيل للكيان الموحد، رغم أنهم غالباً من السكان الأصليين لتلك الأوطان، وليس من العدالة أو الموضوعية أن نحوِّل انتماءهم الأصيل إلى أوطانهم، إلى وضع آخر يعدَّون فيه منقوصي الانتماء، وانتقاص الانتماء أو التهميش لأي مجموعة إذا تم خلال التطبيق العملي للأيديولوجية، كنوع من الانحراف أو عدم الدقة في التطبيق، فإنه يكون أمراً وارداً وقابلاً للمعالجة أو التصحيح من خلال الرجوع إلى المبادئ الأصلية، المفترض فيها العدالة والمساواة، هذا بالطبع إذا كنا نسعى إلى تأسيس دولة حديثة، تتفق ومعايير القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان، وفي مقدمتها المساواة بين البشر، وإلا كنا ننادي بدولة متحفية تنتمي إلى عصور خلت، أما حين يكون التهميش وانتقاص الانتماء متضمناً في أساس النظرية، فهذه هي ملامح الفاشية، التي لا نغالي إذا وصمنا بها أيديولوجية العروبة، وهو ذات ما ينطبق على أيديولوجيا التأسلم السياسي.
لا يحل الإشكالية هنا أن تتضمن الأيديولوجية المهيمنة شروطاً لمعاملة الآخر تبدو لأصحابها رحيمة وعادلة، لأنها لو كانت كذلك حقاً ومن منطلق إنساني وعقلاني، فإن هذا يعدم تأثيرها كمرجعية تشير إلى وضع ما، ونكون عندها قد فرغناها من مضمونها، وعدنا إلى مرجعية المنطق والعقلانية، فما أتوصل إليه بالعقل المجرد والتأمل الموضوعي لا معنى أن تضع بيني وبينه أيديولوجية أو عقيدة لترشدني إليه، أما إذا كانت العقيدة المرجعية تستبدل وضع الإنسان وحقوقه الطبيعية بأخرى مختلفة، فإن الإجحاف هنا لا يكون فقط بقدر انخفاض سقف الحقوق المقترح عن السقف الطبيعي، وإنما والأهم هو انتزاع حقوق الإنسان الطبيعية، واستبدالها بأخرى بصفة منحة، يتفضل بها المسيطر على من أصبحوا في ذمته أو تحت رعايته، ليضع لهم خطوطاً حمراء وخضراء وفق ما تمليه عليه مرجعيته أو يشاء هواه، وتختلف بالتالي عن تلك التي للإنسان المنتمي للجماعة المسيطرة.
من الخلط الحديث هنا عن ضرورة خضوع الأقلية لرأي الأغلبية، فهذا فشل في توظيف مفهوم الديموقراطية في المجال المحدد لها، فآلية تغليب رأي الأغلبية هي المثلى في تحديد أهداف مجتمع، سواء على المدى القريب أو البعيد، أما وضع السياسات والخطط والأساليب التنفيذية لتحقيق تلك الأهداف، فلا شأن لرأي الأغلبية أو الأقلية بها، لأنها أمر يختص به المحترفون والعلماء في المجالات محل النظر، ويتم اختيار القرار المناسب فيه على أساس العلم والإمكانيات المتاحة، وليس على أساس رغبات الجماهير أو آمالها أو أهوائها، لكن هذا وذاك، أي اختيار الأهداف وتحديد السياسات، مختلف تماماً عن تحديد مصير وكيان وطبيعة نظرتنا لوجود فرد أو مجموعة تعيش على سطح هذا الكوكب، وتتخذ من بقعة فيه وطناً لها، فوجود هذا الفرد أو المجموعة لا ينبغي أن يكون مرتهناً برؤى أو مزاج أو رأي أغلبية أو أقلية، فالأمر هنا يتعلق بالحق الطبيعي في الحياة والمساواة بين البشر، شاءت الأغلبية هذا أم أبت، كل ما يختص جذرياً بالوجود وتنظيم علاقات الحياة بين البشر من حيث العدالة والمساواة يخرج عن مجال تغليب رأي الأغلبية بما ينتقص من حقوق الأقلية ووضعها في المجتمع الإنساني، وإن شئنا تعريف الديموقراطية هنا، فلن تكون 'سيادة رأي الأغلبية'، وإنما ستكون هي 'حماية حقوق الأقلية' التي قد ينخفض عددها ليكون فرداً واحداً.
ثانياً افتراض الدين الواحد في مقولات خطاب العروبة تعميم مخل بدرجة فجة، فالحديث عن دين واحد هو الإسلام يتجاهل المذاهب الإسلامية العديدة، وأمامنا ما يحدث الآن من مذابح بين السنة والشيعة في العراق، وفي لبنان الموشكة هي الأخرى على الوصول إلى ذات درجة السوء، وإذا كان الدين واحداً وهو الإسلام، فإن التدين أي فهم الناس للدين يتعدد بتعدد الشعوب بل والأفراد، فكل يفهم الدين حسب ظروفه وعقليته واستعداداته الشخصية، وقليل جداً هو عدد الثوابت التي يتفق عليها الجميع، فالإسلام كما تفهمه العقلية الوهابية البدوية مختلف جذرياً عما يفهمه من الإسلام المصري المزارع المسالم والمتسامح بسليقته، والمنفتح عقلياً وقلبياً للتعدد والتنوع.. إذن مقولة الدين الواحد افتراض نظري بحت، مادام الدين الواحد يتوزع التدين به ما بين مذاهب وتفسيرات ومفاهيم شتى، يصل الخلاف بين بعضها إلى حد الاقتتال الدموي، بداية من الفتنة الكبرى في فجر الدعوة الإسلامية، حتى الذبح على الهوية في العراق المعاصر، تنفيذاً لتوجيهات المجاهد الشيخ أسامة بن لادن بطل الجماهير العروبجية.
هكذا لعب الخطاب العروبي وخطاب الإسلام السياسي عن الانتماء العربي أو الإسلامي، بديلاً عن الانتماء الوطني، الدور الرئيسي في إرباك وبلبلة الجماهير في مصر (وسائر العالم العربي)، فضمر الشعور بالانتماء للوطن ومن فيه، وفي نفس الوقت لم يتبلور شعور بالانتماء الحقيقي، لا للعالم العربي ولا الإسلامي، ذلك أن كلاً من الخطابين مفارق لحقائق الواقع، وأقصى ما يمكن أن يحققانه هو ما حدث فعلاً من اختلاط وحيرة، وهروباً من المستقبل الفاشي الذي يعدنا به هذان التياران راح البعض بعيداً إلى المرحلة الفرعونية من تاريخ مصر، واعتبرها مكمن الهوية المصرية الأصيلة، وأظنها دعوة ينبغي على دعاتها أن يحذروا من الوقوع في أسر فاشية أخرى، تنسب المصرية إلى جنس أو عرق يعتبر الحديث عنه الآن من قبيل الخرافة، رغم أننا نحمل بعض سماته في تركيبنا الوراثي، علاوة على مطب تجاهل ما حدث من تغيرات في التركيبة السكانية والحضارية المصرية خلال حوالي خمسة وعشرين قرناً منذ نهاية المرحلة الفرعونية بعد غزو قمبيز، وبداية المرحلة اليونانية والبطلمية ثم الرومانية، بالطبع لا أتهم هؤلاء العائدين إلى الجذور المصرية بالفاشية لأنني واحد منهم، لكنه تحذير لمخاطر ماثلة، كفيلة إن لم ننتبه لها بأن ينطبق علينا مثل 'المستجير من الرمضاء بالنار'!!
كان هذا عن خطاب الهوية السائد، والذي تحدثنا عن انفصاله شبه التام عن الواقع المصري، فماذا عن حركة هذا الواقع، ولماذا لم تؤثر على الفكر والثقافة ليعملا في اتجاهها؟
لابد أن هذا يشير إلى خلل في حركة الواقع ذاته، والأمر معقد ويحتاج إلى أبحاث أكاديمية وتاريخية تتتبع ما حدث طوال تلك الدهور لمسيرة الإنسان المصري، ونكتفي هنا بتقديم ملحوظة نتركها لأهل الاختصاص لتمحيصها، وهي أن الشعب المصري لم يجد التفاعل مع ما ورد عليه من حضارات وأفكار وأيديولوجيات، وفشل إلى حد كبير في استيعابها أولاً بأول، ليخرج منها بمزيج متجانس يخصه ويختص به وحده، لكنه لجأ إلى استقبال كل ما يرد، ويتركه يتراكم في حياته مع ما قبله من أفكار وممارسات، وتجنب المصريون حسم موقفهم مما يحتويه هذا الركام من متناقضات، فنجد الآن أستاذ الجامعة يحاضر لطلابه العلم في الصباح، وفي المساء قد يذهب لدجال يقرأ له الطالع أو يشفي زوجته من مرض عضال، ويمارس حياته مستعيناً بكل ما أنتجه العلم والعقل البشري من منجزات، لكنه مع ذلك لا يستخدم العلم في تدبير أمور حياته الشخصية، ويلجأ للاستخارة وطلب الفتوى من رجال الدين، ليحددوا له ما يجوز وما لا يجوز، وكأنه بكل ما حصل من درجات علمية غير قادر على 'التفريق بين الحمرة والجمرة'، لقد توالت على الشعب المصري عبر تاريخه عصور عديدة بثقافاتها ولغاتها، وكان نهج المصري في التعامل معها كما ندعي هو نهج التراكم وتجاور المتناقضات، وليس نهج الحسم والتفاعل الخلاق، لتشهد بداية الألفية الثالثة المصريون وهم يتلفتون حول أنفسهم متسائلين من نحن أو من نكون؟!!
[email protected]
اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات