quot;القتل ممكن. لكنّه ممكن حين لا ننظر إلى الآخر وجهاً لوجه.quot; ليفيناس
في حوار أجري معه قبل وفاته، قال إيمانويل ليفيناس ( 1906 ndash; 1995 ): quot;ثمة علاقة وطيدة بين الوجه والحوار. الوجه هو الناطق والمتحدّث، وهو الذي يتيح امكانية التواصل ويبتدئ الحوار... والقول الأول الذي يطلقه الوجه هو: quot;لاتقتلquot; وهو فعل آمر. في تجلي الوجه ثمة حكم وفعل أمر كأنه يصدر من الكائن الأعلي، وفي نفس الوقت يمكن وصف نداء الوجه برجاء مستنجد. انه ذلك الضعيف الذي يتعين علي ان أخدمه بكل ما أستطيع وأظل مدانا له في الوقت نفسه.
أنّ حضور وجه الآخر ليس مدعاة إلي الصّراع والعنف، كما ذهبت إلى ذلك وجوديّة سارتر: quot;الجحيم هم الآخرونquot;، بقدر ما هي علاقة قبول وحوار وتسامح، وفي هذا القبول بالآخر دون احتوائه في منظومتنا المعرفيّة، تكمن إنسانية الإنسان.
ويُسمّي ليفيناس الالتقاء quot;بالآخرquot; بـquot;الحدثquot;، حتى أنه يصفه بـquot;الحدث الأساسيquot;. فهو يشكّل، بحسب اعتقاده، التجربة الأهمّ، تلك التي تفتح أوسع الآفاق للحوار والحياة والسلام. وهذا اللقاء، كما يشير هو بداية الخروج من التمركز حول ذاتي، فمجرد وجود الآخر أمامي هو انكار لكوني أنا مركز كل شئ، ودعوة في الوقت نفسه إلى الخروج من ذاتي والعيش مع الآخر.
وعلي الضد من علاقة quot; كتف بكتف quot; التي طالت كثيرا، ونتج عنها ابتلاع الأنا في الآخر أوذوبان الآخر في الذات، تحافظ علاقة quot;وجها لوجه quot; أساسا علي مسافة مناسبة بين الأنا والآخر، وعلي الانفصال الذي هو شرط الاختلاف، ذلك أنها ليست دمجا للذات والآخر في وحدة كلية، حيث لايمكن هذا الدمج، ومن ثم فهي أيضا علاقة أخلاقية، تستدعي حرية الذات لتوجهها نحو المسئولية.
وهكذا يؤسس ليفيناس في احتفائه بالانفصال والاختلاف والوجه، لذاتية تتحقق كمسؤولية تجاه الآخرين، وهذه المسئولية quot; لايمكن الهروب منها أو أستبدالها أو التنصل منها أو الاستعاضة عنها بأي شئ آخر أبدا quot;. ويبدو أن الدرس الاخلاقي الذي يمكن استخلاصه من العولمة اليوم، إذا أردنا، هو : quot; جعل مستقبل الآخر مسؤولية شخصية quot;.
بيد ان مقولة quot;وجها لوجهquot; عند ليفيناس تحيلنا خفية إلي ما أصبح يعرف اليوم بلغة الجسد - وحسب علوم: النفس واللغة والاتصال... فإن هناك أربع شفرات للتواصل الإنساني، الكلام والصوت (السمع)، والجسد والوجه (البصر). فأنت لا تقنعني بما تقول فقط من كلمات، وإنما بالصوت والوجه والجسد.
أضف إلي ذلك أن اللغة الأبجدية نفسها تستخدم لغة الجسد، مثلما نقول: لم يرف له جفن، غض الطرف، اليد الممدودة بالسلام.... الخ. فضلا عن أن الكلمات لا تخرج فقط من فم الانسان، وإنما من كل جسده، ناهيك عن ان ما يقوله الفم ليس بالضرورة هو ما يقوله الجسد. فالإنسان لا يمكنه أن يختبئ خلف جسده وإن كان بإمكانه أن يتواري خلف كلامه. وعلاقة quot;وجها لوجهquot; هي علاقة مباشرة، والمباشرة، ربما كانت، علي صلة quot;بالبشرةquot; في اللغة العربية.
وكما لاحظ laquo;آلان بيزraquo; في كتابه laquo;لماذا يحكّ الرجال آذانهم، والنساء يبرمن خواتمهن؟raquo; فإن المرأة أكثر حنكة ومعرفة في لغة الجسد من الرجل، وهو ما يعرف بالحدس الأنثوي. لذا لا يستطيع الرجل تمرير كذبته على زوجته كثيرا، لأنه سرعان ما يسقط تحت سلطان حدسها وامتلاكها لأدوات وشفرات الإشارات الجسمية، خصوصا الوجه.
فهي كأم تتعامل مع لغة الإشارات لأن الطفل في بداية أمره لا يتكلم، إلا أن عدم كلامه لا يعني انه لا يتواصل، بوسائل أخرى منها حركات الجسد وتعابير الوجه، وهو ما يجعل المرأة أشد صلاحية من الرجل في المفاوضات، لأنها لا تسقط الإشارات من الاعتبار خلال التفاوض.
الطريف أن لعبة كرة القدم هي أحد الميادين التي تطرح في شدة مشكلة العلاقة بين اللغة والجسد، بمعنى : كيف يمكـــنك ان تجعل شخصاً ما يفهم، أو بالأحرى، أن تجعل جسد شخص ما يفهم؟ كيف يمكنه تصحيح الطريقــة التي يتحرك بها؟.
ثمة إذاً طريقة للفهم خاصة تماماً، هي تلك الطريقة التي تتمثل بجسد المرء، وهناك أكوام من الأشياء لا نفهمها إلا بأجسادنا، خارج الوعي الواعي، ومن دون أن نستطيع صوغ فهمنا في كلمات، كما يشير بيير بورديو.
لقد تسربت لغة كرة القدم عبر كل مسام حياتنا، من السياسة الى الشارع، وحتى فراش الزوجية.
قبل سنوات قليلة تبادل المفاوضون ( الفلسطينيون والإسرائيليون ) في ملعب الموفنبيك المطل على البحر الميت في الأردن، كل مصطلحات كرة القدم تقريباً، عبر تفاهمات quot; وثيقة جنيف quot; بدءاً من quot;أنت لاعب احتياطيquot;، وquot;الكرة في ملعبكquot;، مروراً بـquot;الطردquot; وquot;التعادل السلبيquot; وانتهاء بأشهر النكات: quot;اسرائيلي يركل ضربة جزاء.. انفجـرت الكرة في وجـهه quot;!
وهي في الواقع أكثر من مجرد نكته، لأن quot;القتل ممكن. لكنه ممكن حين لا ننظر إلي الآخر وجها لوجهquot;... كما قال ليفيناس.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانون
التعليقات