كثيرون كانوا امس يتحرقون لتأبين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، سواء في العالم العربي او خارجه. هؤلاء بدوا كمن لا ينتظر غير مثل هذا الخبر منذ زمن طويل. الخبر لم يأت بعد، ولا حاجة للاسراع في تأبين رجل نجا من عشرات محاولات الاغتيال في حياته. لكن الحرص على تجنب اي تأبين استباقي لا يمكن ان يغيّب حراجة اللحظة الفلسطينية، بل العربية، فيما يصارع الرئيس عرفات مرضاً هو نفسه غامض (الى حد بدأ يغذي نظريات المؤامرة).

حراجة اللحظة منبعها ان الرجل الذي يقاوم الموت هناك في باريس ليس رئيساً او زعيماً عادياً، ولم يكن يوماً هكذا. وتكفي المقارنة بين الصدى الذي تثيره كل جرعة هواء يتنشقها عرفات وبداية حياته السياسية. فأي تقويم لمسيرته لا يمكن ان يغفل ان هذا الرجل بدأ من لا شيء. ليس بالمعنى الشخصي، بل السياسي الوطني. ولا ريب ان هذه العصامية السياسية، ان جاز التعبير، ستظل في رصيد حركة فتح والنواة الصغيرة التي اطلقتها ولم يبق منها اليوم الا عرفات نفسه وابو مازن. فمن كان يتوقع، حين انطلقت المقاومة الفلسطينية في منتصف الستينات، ان تصل الى ما وصلت اليه؟

طبعاً، يستطيب البعض تبخيس ما انجز، ولا سيما في ضوء مشهد الاحتلال الاسرائيلي المتجدد، ومراوحة الانتفاضة مكانها. لكن، رغم الفشل العسكري للمقاومة، وانزلاقها في المتاهات العربية، واخفاق السلطة الوطنية في التحول دولة مستقلة - ورغم حتى تراجع نطاق الحكم الذاتي - ما من شيء يمكن ان يخفف من حجم الانجاز المتمثل في عودة فلسطين على خريطة العلاقات الدولية، وبعد انجاز اولي شكلته عودتها الى تصدّر الهم العربي. وقد جاءت عودة عرفات الى فلسطين العائدة قبل عشرة اعوام، ورغم القيود التي قبلت منظمة التحرير الفلسطينية، وفقاً لاتفاق اوسلو، ان توضع على حرية السلطة الوطنية لتعلن ان الشعب الفلسطيني الذي أخرج من التاريخ بدأ يعود اليه.

قد يكون عرفات فشل في الحصول على الاستقلال الفلسطيني. وقد يكون أخفق في بناء أسس الدولة التي يصبو اليها الفلسطينيون. ومن المؤكد انه عجز عن تحقيق حق العودة لجميع اللاجئين الفلسطينيين، هذا بالافتراض انه يجوز محاسبته بمفرده على اخفاقات تعود في اساسها الى عجز الدول العربية ان تكون دولاً وعربية. لكن، ما لا يمكن انكاره على عرفات هو انه نجح، حصاراً بعد حصار، وفي ظروف حالكة على الدوام، في ان يقود شعباً شبه اعزل في مواجهة مع قوة نووية، وان يصل بهذه المواجهة حتى ابواب القدس.