لثلاثة عقود كانت حصانة مملكة البعث في دمشق تأتي من ثباتها، حتى في الخطأ. بل ان صورة التوازن التي لازمت حكم مؤسس النظام حافظ الاسد كانت كفيلة بأن تدوم بعده، رغم المحاولات التجميلية التي لجأ اليها خلفه وما لبث ان تخلى عنها. ولكن يبدو ان للثبات حدودا، ولا سيما بعدما دخلت على المعادلة الاقليمية والدولية معطيات لا يفيد في التعامل معها ارث الاسد الاب. وها هي امارات فقدان التوازن تظهر الآن، وبسرعة مطردة، على الدوائر السياسية السورية (وامتداداتها اللبنانية)، بما يوحي ان مسؤولي المتبقي من البعثيَن راحوا يستشعرون اخيراً غياب الاب المؤسس، وان لم يقرّوا بعد كلياً بمفاعيل غيابه.
ليس المقصود بإمارات فقدان التوازن تلك الاشارات المتناقضة التي صارت تأتينا من الاعلام السوري في عهد وزيره الزميل مهدي دخل الله. ففي هذا التخبط بحث لعله محمود عن سبل التغيير، وان يكن ضمن الاستمرارية المميتة. ولا تدخل ايضاً في هذا السياق الدعوة التي وجهها قبل يومين الرئيس بشار الاسد الى الفنانين من اجل "الافادة من هامش الحرية والنقد الذي يتسع اكثر فاكثر"، على ما قالته مصادر سورية رفيعة المستوى للزميلة "الحياة". ففي مثل هذه الدعوة، مهما بدت غريبة في تعبيرها، نفس تجميلي ينم على الاقل عن حاجة مستجدة الى ايهام المواطن ان الامور سوف تتغير ولا بد...
في مقابل هذه المحاولات المتواضعة للاقرار بأن الاوضاع تحتاج الى تحسين، بلى، يمكن رصد مؤشرات خطرة على فقدان التوازن. فمثل هذه المؤشرات تظهر حين تأخذ السياسة السورية بمناقضة اسسها المعلنة، وخصوصاً حين يأتي الامر الى موضع الثبات المعهود، اي السياسة الاقليمية، سواء اكان ذلك في سوريا نفسها ام في الفضاء اللبناني الملحق بها.
في الفضاء اللبناني، هذا ما يحصل مثلاً حين يتخلى فجأة عتاة "الخط القومي" عن تنديدهم الثابت بالعرفاتية ليستولوا على ذكرى رجل رجموه مئات المرات في حياته. فبعدما هرول الى جنازة الرئيس ياسر عرفات في القاهرة من امضى سنوات يحاصر العرفاتية في مخيماتها حتى تجويعها، ومن اناط بنفسه مهمة ملاحقة عملاء تلك العرفاتية العابثين بأمن العلاقات المميزة، ها هو حزب التلازم برمته يتنافس على حضور تأبين عرفات في حفل بيروتي، ومن دون ان يكلّف احد منهم نفسه عناء الاعتذار عن اطنان القمامة التي رموها على المحتفى به منذ اعوام واعوام! واذا كان يمكن ان يؤخذ هذا المشهد المعيب على الانتهازية السياسية لمسؤولي "فتح" في لبنان، وهو ما ينذر باحتمالات تلاعب جديدة بالساحة الفلسطينية في لبنان، الا ان اهم ما يستدل منه يبقى تلك الحاجة السورية غير المسبوقة الى طيف عرفات، وكأن التغني، وان كاذباً، بالزعيم الراحل يفيد في ترميم صورة "النظام المناضل" من دون كبير كلفة، فيما الادوات المعهودة في العدّة البعثية اضحت عديمة الفاعلية، وتحديداً بعد انتهاء زمن الالتباس ازاء الاحتلال الاميركي للعراق.
والحال ان مشاركة سوريا في مؤتمر شرم الشيخ حول العراق تأتي، في الاتجاه الآخر، لتضيّع البوصلة البعثية كلياً. اولاً في الشكل، فكيف ننسى ان سوريا الاسدية كانت ترى في كلمة شرم الشيخ في ذاتها مذمّة وان ابواقها في دمشق وبيروت حصّلوا اختصاصاً رفيع المستوى في تبيان اخطار مؤتمرات شرم الشيخ المناهضة للارهاب؟ وثانياً في المضمون، اذ يوازي اشتراك سوريا في هذا المهرجان الدولي الجديد تخلياً علنياً عن تقديس المقاومة للمقاومة، وان تكن كل مفاعيل هذا التخلي لم تظهر بعد للوزير فاروق الشرع، رغم ترؤسه الوفد السوري الذي طوى صفحة الالتباس.
عودة الى لبنان: لقد اظهرت القيادة السورية عناداً عقيماً غير معهود وعرّضت نفسها لعزلة دولية كرمى لعيون الرئيس اميل لحود، ولكنها ما ان وضعت خطيئة التمديد وراءها، او هكذا اعتقدت، حتى راحت تلغي مفاعيل هذا التمديد في السياسة اليومية. ولعل المفارقة ان تبدأ الفترة المددة من العهد المنتهية ولايته الاصلية فيما الممدد له شبه غائب عن ادارة شؤون المحمية اللبنانية، وان يرافق انكفاءه ضمور لانفلاش الاجهزة الامنية لمصلحة صيغة جديدة تقوم على الثنائي الشمالي المتمثل برئيس الحكومة عمر كرامي ووزير الداخلية سليمان فرنجية، وهذا حتى اشعار آخر.
مؤدى الكلام انه لم يعد ممكناً الركون الى ثبات البعث في دمشق وعملائه في بيروت وعنجر. فقد صار جلياً ان ما يستدر الحماسة اليوم قابل للتغيّر غداً، وهذه مشكلة بالتأكيد لكل من عليه التعاطي مع الحكم السوري، فكم بالحري اولئك الذين يأتمرون به. فكيف يتورطون بعد الآن في ما قد يضطرون الى التنصل منه غداً؟ كيف يستمرون مثلاً في الدفاع الاعمى عن الهيمنة السورية وهم يستطيعون ان يستشعروا من فقدان التوازن في دمشق، انها الى زوال؟
قد يقول قائل انهم لم يستشعروا شيئاًَ، بل انهم فقدوا ملكة الاحساس، بدليل انهم يهيئون لمغامرة مريعة سماها رئيس الحكومة "تظاهرة المليون"، وهي التي لن تفيد الا في فتح جراح لبنانية داخلية ولن تساعد الهيمنة السورية في شيء امام الدول الغربية العارفة ان الصندوق الاسود للمخابرات قادر على جلب اعداد كبيرة من الناس الى بيروت في مقابل وجبة غداء مجانية، وان اضطر الى الاتيان بهم من الحسكة او من دير الزور.
ثمة من يدّعي ان فكرة هذه التظاهرة ليست دمشقية المنشأ، وانها من بدع حزب التلازم او احد المجتهدين فيه. وهذا افضل بالتأكيد، لكن الاستمرار في المشروع حتى تحقيقه سوف يعني مباركة سورية، وهذا بدوره سوف يوازي اعلاناً من الحكم في دمشق انه لن يسعى الى استعادة توازنه، وان لا مجال بعد الآن لمخاطبته بالمنطق.