محمد الحمامصي من القاهرة: الشاعر الإسباني المعروف خوان رامون خمينث، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1956، صدرت له هذا الأسبوع عن دار سنابل بالقاهرة منتخبات شعرية شاملة من نتاجه بعنوان (مَنْ سيتجول في حديقتي) اختارها وترجمها الكاتب والمترجم العراقي عبدالهادي سعدون الذي قدم لها أيضا بمقدمة استعرض خلالها أهمية هذا الشاعر وألقي الضوء علي حياته وخصوصية رؤاه، وبداية أشار إلي أن هذه المنتخبات وهذه الترجمة هي الأولي في العربية (على حد علمنا، لم نر حتى اليوم في المكتبات العربية منتخبات من شعر خمينث، ولا حتى ترجمات كاملة لكتب شعرية محددة، باستثناء كتابه النثري المهم (بلاتيرو وأنا) الذي حظي بأكثر من ترجمة واحدة للعربية). ويضيف: وما يثير الإستغراب أن اسم الشاعر ونتاجه الشعري معروف للعديد من المترجمين والمتأسبين العرب، بدليل حضوره الكبير في أغلب المقالات النقدية عن الأدب الإسباني عامة وشعرية الإسبان في القرن العشرين بصورة خاصة. ومن طرفنا لا نجد تفسيراً مقنعاً لذلك، سوى العودة لتأكيد حالة كنا قد أشرنا لها في تقديمنا لمنتخبات شعرية أسبانية بالعربية في مناسبة سابقة، ألا وهو طغيان حضور أسماء شعراء أسبان بعينهم وتركيز المترجمين العرب على الشائع والمتداول من هذه الأسماء لسبب معين أو لغيره. و هذا ما جعل شعر وشخصية خوان رامون خمينث تتراجع للصف الثاني ـ وبدون وجه حق بالطبع ـ بعد الحضور الطاغي لشعراء مثل لوركا و ألبرتي، ونقل المترجمين العرب لنتاجهم بصورة واسعة.
ويري سعدون في هذا الإطار أن حالة خوان رامون خمينث ليست الوحيدة في هذا التقييم، فقد طال الحيف بشعراء قمة في التجديد الشعري الإسباني الحديث مثل شاعر جيل الـ98 المعروف أنطونيو ماتشاو، أو بيثنته الكساندر من جيل الـ 27 الشعري والحائز على نوبل للآداب أيضاً عام 1977. وإذا كنا قد قدمنا للقارئ العربي أول منتخبات شعرية مترجمة للعربية لبيثنته الكساندر، فإن أنطونيو ماتشادو يكاد يكون مجهولاً لقارئنا حتى اليوم، سوى من محاولات منفردة مدرجة في منتخبات عامة أو مجلات أدبية. هذا على الرغم من أننا نجد في الآونة الأخيرة ثورة ترجمية مهمة للشعر الإسباني ونقله للغة العربية وفي دول عربية عديدة، ومن طرف مترجمين شباب يضافون للأجيال الأولى من مترجمي الإسبانية، ولكن حتى هذه ـ وأزاء الوفرة الهائلة التي من الترجمات التي وصلت لنا ـ نتجابه بأسماء مختلفة مهمة وأقل أهمية، ولا أثر حقيقي للأسماء التي ذكرناها سابقاً في مشاريعهم، وبالطبع ليس من بين هذه الكتب ترجمة شاملة وجديدة لشعر خوان رامون خمينث.
في هذا الكتاب يطالع القارئ، عينة شاملة من نتاج خمينث التي تزيد إصداراته الشعرية على أكثر من 40 ديوان شعري، ناهيك عن كتبه النقدية والنصوص النثرية الأخرى. والعينة التي ترجمها سعدون وقدم لها في هذا الكتاب، تضم قصائد من فترات مختلفة، (فلم نغفل أي ديوان دون الأخذ منه، ولعل 80 قصيدة ليست بالمنتخبات الكافية، ولكنها على الأقل هنا تشكل حجر أساس لقراءة خمينث وفهم عوالمه الشعرية، وربما أيضاً خطوة تشجيع لآخرين على تبني فكرة ترجمات قادمة).
ويقول عبد الهادي سعدون في مقدمته التي رصد خلالها جوانب مهمة في حياة الشاعر الإبداعية والإنسانية: المنتخبات تتفاوت في فتراتها الزمنية كما قلنا، فهناك قصائد تعود لفترته الأولى، وكذلك قصائد كتبها في أيامه الأخيرة، وعملنا كما حاول خمينث في حياته، بأن يدمج نتاجه الشعري بين فترة وأخرى في كتاب واحد يطلق عليه ما يسمى بـ (المنتخبات الشعرية الخاصة) والتي أصدر منها حتى مماته ثلاث أجزاء، أي أنه يجعل منها ككل واحد، وكتشكيل لشعرية موحدة، دون أن ينزع عنها وعن نفسه التطور الزمني ولا المرجعيات الذهنية والقراءية والحياتية المتنوعة التي مر بها. من جانب آخر أخترنا عنوان أحد قصائده المنتخبة (مَنْ سيتجول في حديقتي) كعنوان رئيسي للكتاب لدلالتها الإيحائية لمن يريد الشروع بمعرفة العالم الشعري لخوان رامون خمينث والتجول فيه، فالقصائد مثل العنوان، تجوال مكتمل ـ وإن لم يكن شاملاً ـ في حدائق الشاعر المتشعبة.
ولد خوان رامون خمينث(1881-1958) في بلدة مُغير (Moguer) التابعة لمدينة والبه (إويلباHuelva) في أقصى الجنوب الغربي من إسبانيا، قرب الحدود البرتغالية. درس أول أعوامه فيها، ثم انتقل بعدها لمدينة قادش ليدرس في المدرسة اليسوعية، وهناك سيتعرف على أسماء أدبية ناشئة مثله، وفي هذه الفترة سيكتب أول قصائده وإن لم ينشر منها شيئاً. خلال تلك الفترة قرأ وتأثر بأعمال الإسبانيين أدولفو بيكر و غونغورا، والذي سيضيف لهما في فترات لاحقة من حياته، إسم شاعر نيكاراغوا المعروف روبن داريو، رائد مدرسة التحديث (المودرنيزم) في الشعر المكتوب باللغة الإسبانية، حيث سيتحول إلى معجب و دارس لمسيرته الشعرية. وهذا الإعجاب سيكون متبادلاً بين القمتين الشعريتين إلى درجة الصداقة. في تلك الفترة ونتيجة لهذا التشجيع، إنتقل خمينث لمدينة مدريد وتواصل مع شعراء العاصمة وهناك سينشر أول كتبه الشعرية بتأثر واضح بملامح الحركة التحديثية. وفي تلك الفترة سيصاب بعوارض مرضية نفسية، لتجبره على أن يعود لقريته مُغير. في العام نفسه يتوفى والده، مما سيضاعف بمرضه وإحساسه بالتوحد في هذا العالم. يسافر بعدها شاعرنا إلى فرنسا للعلاج والنقاهة، وهناك سيقرأ بنهم كبير لشعراء الحركة الرمزية الفرنسية أمثال بودلير و مالارميه، مما سيترك أثراً واضحاً في كتبه الشعرية التي أنجزها في تلك الفترة. سيسافر شاعرنا فيما بعد إلى إيطاليا ويشرع بكتابة ديوانه الثالث (قصائد) لينشره بعد عودته لمدريد. يمكننا القول أن الكتابة والمرض منذ هذه اللحظة سيكونان لصيقين بحياة شاعرنا خمينث، إلى درجة أن أغلب الدراسات النقدية عنه لا بد لها من الدخول بتحليلات عميقة لأثر المرض في كتابات وحياة خمينث. خلال تلك الفترة سيكون خاضعاً لعلاج طبي مستمر في مصحة نفسية حتى يشعر بالإستقرار الجزئي ليعود عام 1905 لمسقط رأسه في قريته مغير. إثناء ذلك سيكون الشاعر قد نضج بشكل كبير، وعندها سيكتب مطولته النثرية المعروفة (بلاتيرو وأنا) بتأثير مباشر لطبيعة المنطقة الأندلسية المدهشة. ولكنه لن يكون الكتاب الوحيد، فقد كتب إثنائها دواوين مختلفة مثل: أغنيات الربيع أو قصائد مدهشة و مؤلمة.
ويري عبد الهادي سعدون أن مسيرة خوان رامون خمينث الفنية خطت خطواتها الأولى تحت لواء الحداثة الإسبانية واللجوء إلى الأوزان والأنماط الملازمة للنظم الشعبي (الرومانث). وتمثلت تجربته الحداثية في quot;بادرة واسعة وحرة ومتحمسة نحو الجمالquot; على حد تعبيره، والحقيقة أن قصائده الأولى تعكس هذا الهدف المبني على الشكل على حساب المضمون. وتزخر هذه القصائد الأولية بالسوداوية وحبكة لغوية لا تخلو من التصنع التعبيري والأناقة الهشة. إلا أنه طرأ على إنتاجه تغيير جذري إثر صدور كتابه المنثور المكتوب بلغة شعرية quot;أنا وبلاتيروquot; حيث سيهجر التكلف والاصطناع إلى البساطة والأصالة اللغويتين.
في عام 1911 يعود خمينث مجدداً لمدريد، ليعيش في نزل الطلبة المعروف، حيث سيقوم بإلقاء العديد من المحاضرات عن الشعر والأدب والحياة. وللمناسبة هو نفس النزل الذي مايزال قائماً حتى اليوم، والذي مر فيه في سنوات لاحقة العديد من أهم أدباء وفناني أسبانيا في القرن العشرين مثل غارثيا لوركا، دالي أو بونويل. في تلك الفترة سيلتقي خوان رامون خمينث بالمرأة الوحيدة المعروفة في حياته، ألا هي زنوبيا كامبروني، إذ لم يعرف عن الشاعر علاقات بنساء أخريات. لقائه بهذه الشابة المهتمة بالأدب، وهي إبنة لأم من بويرتو ريكو و أب إسباني، سيكون بمثابة قشة الإنقاذ والأمل الوحيد، بدون مبالغة، في حياة خوان رامون خمينث. لم يكن بالطبع طريق التقائهما سهلاً، فإضافة للفارق العمري ومعارضة عائلة الفتاة، لم تكن الفتاة متحمسة للزواج من رجل إنعزالي وشاعر مصاب بالجنون و الوهم. ولكن لقائاتهما المتكررة ونقاط ثقافية مشتركة عديدة قد أزاحت العديد من عراقيل ارتباطهما الرسمي الذي سيتم في عام 1916.
يسافر الخطيبان للولايات المتحدة الأمريكية للزواج وتمضية شهر عسل. هناك سيقوم الشاعر بتلخيص وقائع رحلته إلى نيويورك في ديوان quot;يوميات شاعر حديث الزواج quot; (1917) و مثلما يدل عنوان الكتاب فقد ألفه بما يشبه اليوميات بمزيج من النثر والشعرية وأدخل فيها موضوعا سيعود إليه لاحقا شعراء من أمثال فيدريكو غارثيا لوريكا ألا وهو نيويورك رمزا للعصر الصناعي الجديد. ثم واصل سيره نحو quot;الشعر الخالصquot; الذي سيكون بمثابة إبتكار وعلامة مميزة لأغلب نتاجه الشعري اللاحق كما عليه في ديوانه quot;أبدياتquot; الصادر في العام 1918 ويحتوي هذا الديوان على بيت شعري شهير يلخص رؤيته التامة ومفهومه الشعري، إذ يقول فيه:
quot;أيها الذكاء/ أمنحني الإسم الحقيقي للأشياء! /... أن تخلق الكلمة نفسها مجدداً من روحيquot;.
عند ذاك سيستمر، إضافة لإستقرار حالته الصحية نوعاً ما، بالكتابة الشعرية على نفس المنوال، ليصدر حتى عام 1936 عشرات الكتب من بينها: حجارة وسماء، أشعار، جمال و المحطة الشاملة. إثناء ذلك كان الشاعر قد دأب على جمع نتاجه الشعري في منتخبات كاملة، وهي نتاج مرحلته الإبداعية الأولى، وطبعت في 1922 بعنوان quot;المجموعة الشعرية الثانيةquot;. ولم يلبث أن اكتسبت هذه المجموعة أهمية فريدة من نوعها في الشعر الإسباني فتعد، أسوة بـ quot;الرومانث الغجريquot; لفيدريكو غارثيا لوركا وquot;عشرون قصيدة حب وأغنية يائسةquot; لشاعر تشيلي بابلو نيرودا، إحدى الأعمال الشعرية المكتوبة باللغة الإسبانية الأكثر تأثيرا في القرن العشرين.
ويضيف عبد الهادي سعدون : مع نشوب الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، فضل خمينث مصاحبة زوجته والهروب حتى الأراضي الأمريكية. في البدء أقاما في نيويورك، ثم توجها إلى بويرتو ريكو، ليسافرا للإستقرار في كوبا لأكثر من ثلاث سنوات. كان خلال هذه الفترة، سيعمل في أكثر من جامعة وكتب العديد من المقالات النقدية في الشعر الإسباني والأميركي لاتيني، والتي ستجمع بعد وفاته وتصدر في كتابين. لا بد من التأكيد هنا أن خمينث كان من المتحمسين للجمهورية الإسبانية، مما يعني أنه كان بالضد من الحركة العسكرية لفرانكو وبالتالي بالضد من تعسفه ودكتاتوريته، ولهذه الأسباب لم يرجع الشاعر لبلد أسبانيا مطلقاً. خلال تلك الفترة، عمل كأستاذ زائر في الولايات المتحدة و الأجنتين حتى عودته النهائية عام 1951 لبويرتكو ريكو، ليستقر فيها بسبب من تردي وضعه الصحي. في بويرتو ريكو، إنضما لكادر التدريس في الجامعة الوطنية، حيث أحتفي بهما بشكل لا مثيل له، حتى أن الجامعة قد أطلقت أسميهما على قاعة دراسية.
خلال تلك الفترة حتى عام 1958 أشتدت وطأة مرضه وبدأ يمر بحالات مرضية عصبية متكررة. إثناء ذلك ستصاب زوجته زنوبيا بالسرطان، وعلى الرغم من علاجها المتكرر، إلا أن المرض سيقضي عليها لتموت بعد ثلاث أيام من تلقيهما خبر منح خمينث جائزة نوبل للآداب عام 1956، وهي التي عملت كل جهودها خلال سنين طوال من أجل التعريف بشعرية خمينث لدى الأوساط الأكاديمية لجائزة نوبل. بعد رحيل زوجته، لم تستقر حالة خمينث المرضية، فكان يمر من حال سيء إلى وضع أسوأ، وحادثة السيارة التي تعرض لها في عام 1958 ستسارع بموته، ليرحل عن العالم في 29 من شهر مايس عام 1958، ليدفن في بويرتو ريكو دون أن يحلم ولو بالعودة جثة هامدة إلى بلده إسبانيا، التي مازال على العديد من أبنائها المنفيين أن يصبروا حتى عام 1974 وهو عام وفاة الدكتاتور فرانكو ليهيئول أنفسهم للعودة.
ويؤكد عبد الهادي سعدون أنه على الرغم من أن الفترة الثانية من حياة خمينث الإبداعية ـ بعد خروجه من إسبانيا ـ لم تكن بغزارة المرحلة الإولى، إلا أنها برأي خمينث نفسه والعديد من النقاد، هي المرحلة الأكثر التصاقاً وحميمية بمفهومه الشعري ورؤيته الحقيقية للحياة. هذا المنحى الشعري الجديد أتاح له الإبحار في خضم الشعر الحر لتحقيق إنجازات تعبيرية جديدة تدفع به شيئا فشيئا إلى ما سيكون ملجؤه الأخير وهو النثر الشعري المليء بعلامات التعجب وإشارات النفي والتشديد وكأنه راغب في إطلاعنا على مخاض تجاربه الخاصة. وفي الوقت ذاته، طور خوان رامون خيمينيث ضربا شخصياً من التصوف أو السعي إلى الاتصال بكائن سام لم يعرفه بأحد الآلهة المعهودة وكأنه يعتبره كائنا غير محدد الملامح. وعلى الرغم من أنه بدا دائما واجما لا يتدخل في السياسة وفي مماحكات زمانه الاجتماعية إلا انه ترك لنا مذكرات صدرت في 1941 باسم quot;أسباني من ثلاثة عوالمquot; إلى جانب مسودة لكتاب صدر بعد موته بعنوان quot;حرب في إسبانياquot; حيث تحدث عن معتقداته السياسية المؤيدة لنظام الجمهورية واستعرض شخصية الأدباء الأسبان وظروفه وقال صراحة ما رأيه في نسبة منهم.
ويقول سعدون : لقد كتب العديد من المتأسبنين العرب، وبعض النقاد الإسبان، في علاقة خمينث بالشعر العربي، وشعر المتصوفة خاصة. وعلى الرغم من أنه ليس هناك من دلائل و بينات واضحة تكشف لنا مدى دراية الشاعر ومعرفته الحقيقية قراءة وإطلاع على النموذج الشعري العربي، إلا أننا من الممكن التنويه بها و وضعها كنقطة رئيسية لدى القارئ العربي أو من يرغب بدراسته دراسة متعمقة. في الواقع أن شاعر المغير قد أطلع على النماذج الشعرية لشعراء الأندلس التي نقلها للإسبانية أساتذة مدرسة الإستعراب الجديدة مثل غارثيا غوميث، وهي للتذكير نفس المنتخبات التي سيطلع عليها لوركا وألبرتي، والتي نرى بعض أثرها واضحاً في شعرهما. كما نذكر هنا بأن خمينث قد أطلع على شعريات مشرقية مختلفة، ليست العربية فحسب، بل تعداها لأهتمامه بدراسة شعر شاعر الهند الأكبر طاغور، حيث قام بمساعدة زوجته بترجمة أول منتخبات شعرية طاغورية للغة الإسبانية. ومنها يمكننا تصور قراءاته الأخرى بالفرنسية لنماذج أخرى. بدورنا انتخبنا ثلاث قصائد، هما القصائد الأخيرة المترجمة في هذا الكتاب، وهما من ديوانه (رب مريد و مراد) ضمن كتاب (حيوان الأعماق) للمشاركة في فهم معنى العلاقة الربانية ـ التصوفية لدى الشاعر، وربما لفهم تأثره التصوفي المشرقي.
ويلفت عبد الهادي سعدون النظر إلي ما قام به الأديب محمود عباس العقاد، من دراسة هي الأولى من نوعها لخوان رامون خمينث، مع منتخبات متفرقة من شعره (بالأخص من كتابه بلاتيرو وأنا)، على الرغم من أن محاولة الأديب العقاد كانت منصبة حول جائزة نوبل بدرجة أولى، والكتابة عن شاعر أندلسي ثانياً، وكأنه أراد به إرجاعه لزمرة الشعراء العرب حتى لو لم يكتب باللغة العربية، وهذه الخصلة كانت حجر الثقل في كتابة العقاد والإلحاح فيها والتأكيد عليها، وهو هنا ينأى عن الحقيقة بالطبع. وثالث النقاط هو أن ترجمة العقاد ودراسته لم تأت مكتملة نتيجة عدم معرفته بلغة وآداب إسبانيا، إذ نقلها عن الإنكليزية على حد علمنا (!؟)، وأضيف لها أن الترجمة بقدرتها اللغوية الهائلة وصياغته الأدبية المتميزة التي لا مجال للشك فيها، فهي في الواقع غريبة الحال وبعيدة عن عالم خمينث وقصائده، إلى درجة أن مترجم الإسبانية أو من يرغب بدراستها لا يستطيع بأي حال من الأحوال إرجاعها لأصلها الإسباني، ولا نعلم هل ذلك جاء نتيجة لترجمتها عن لغة وسيطة أم أن الترجمة الوسيطة قد وقعت في المطب نفسه. على أية حال، فهي خطوة مهمة، وشيء مدهش، أن نجد هذا الإهتمام والتلاقي ما بين أديبين قمتين مثل العقاد وخمينث.
ويؤكد سعدون أن شاعرنا خوان رامون خمينث يعد أهم صوت شعري لما يسمى في الأدب الإسباني الحديث، بجيل عام 1914، وهو الجيل التالي لأهم جيل هو جيل الـ 98 أو جيل الحركة التحديثية الذي أخذ على عاتقه بناء هيكلية الأدب في بلد محكوم عليه بالإنتكاسة في كل المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية. ولكن جيل 1914، وإن جاء تابعاً لممثلي جيل كبير مثل جيل الـ 98، فقد كانوا على صداقة و تلاحم وتبادل ثقافي مشترك، إلا أن هذا الجيل، وعلى رأسه خوان رامون خمينث، لم يقعوا تحت تأثيرهم الكبير والتقليد لهم دون دراية و معاينة حقيقية. ففي محاولاتهم النشرية الأولى نجد الكثير من الإشارات التي تدل على وقوعهم في دائرة سحر شعرية حداثويي جيل الـ 98، ولكن هذا التأثير لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما عنى أفراد هذا الجيل الجديد ومنهم خمينث في البحث عن مصادرهم الخاص، ذائقتهم المغايرة، وصوتهم المتفرد.
لعلنا من خلال تتبع نتاج خمينث الشعري وتصريحاته النقدية بين حين وآخر، والتي يحدد فيها فكرته عن الشعر والشعرية، نخرج بتصورات عديدة لعل أهمها هو آرائه عن الشعر نفسه. إذ يرى أن الشعر هو الجمال الخالص، ولكنه أيضاً بصورة أخرى طريق للمعرفة ليصل به كي يكون تعبيراً مقنعاً لمعضلة الخلود. فالجمال والحقيقة هوس للقبض على ماهية الحياة، خروجاً بها عن فجائية وهشاشة الأشياء، ومن هنا تأتي فكرته الدائمة في أكثر نتاجه الشعرية عن الرب والألوهية، حيث يلصقه لصق الروح بالبدن، مع الطبيعة المجردة و الوعي الخلاق أو مع ما سيكون المصطلح الثابت لشامل شعريته ألا هو: الجمال المطلق.
ويقول سعدون : من خلال تتبعنا لنتاجه الشعري المكتوب والممتد لنصف قرن تقريباً، نستطيع التعريف بأهم مراحلها بشكل مبسط وهي التالية:
- المرحلة الأولى؛ أو ما يطلق عليها بالشعر المبسط أو quot;البريءquot;. وهي مرحلته الكتابية الأولى التي نلمح فيها مؤثرات ما بعد الرومانسية، خاصة تأثره بنموذج أشعار غوستاف بيكر. أشعاره هنا صيغ مبسطة، متماثلة، ذات شفافية في التعبير، مع تلميحات بسيطة نلمسها من المودرنيزم والرمزية الحميمية.
- الثانية؛ وهي المبطنة بنسيج المودرنيزم والتحديثية. فترة التأثر الكبير بالحركة المعروفة وبالأخص بشعر روبن داريو، وفيها أستخداماته للون وعناصر أخرى ذات جرس صوتي وحضور براق مع تمايز لحني وصور تحسسية واضحة.
- الثالثة؛ وهي فترة القطيعة التامة مع السابقة نحو تبسيطية شعرية مجددة. وهي المرحلة التي ينتمي لها كتابه النثري (بلاتيرو وأنا)، في لجوء تشذيبي لملامح المودرنيزم وأصرار خارق في أغلب نتاج المرحلة نحو نقاء بنائي في الشكل والبناء الصوتي.
والرابعة؛ وهي الشعرية العارية أو المتقشفة. وهي مرحلة الخروج من البلد، المنفى والتصور الجديد لماهية الحياة وعلاقة المخلوق بالخالق، من خلال نصوص غامضة، تصل للسوادوية، عصية ومنغلقة على نفسها.
وخلال هذه التحولات والتنويع الشعري، نستطيع لمس التطور الشعري من خلال ثلاث مراحل فاصلة:
1- المرحلة الحسية؛ من البدايات حتى عام 1915. 2- المرحلة الذهنية؛ بصدور ديوانه يوميات شاعر متزوج حديثاً 1916 حتى مغادرته إسبانيا عام 1936. 3- المرحلة quot;الحقيقيةquot; أو quot; الكليةquot; حسب كلماته، منذ 1936 حتى وفاته عام 1958.
من خلال هذا التنوع والمراحل المتباينة في نتاج خمينث، يعد الممثل الحقيقي لجيله في كل هذا الضرب من البحث والتغيير والتمرد على الأنماط الشعرية. إن شعر خمينث يعد التمثيل الممكن لشعرية النصف الأول من القرن العشرين، بحث منفرد من خلال النموذج الشعري عن الجمال والمطلق في الكلمة والوجود. لهذا سيشكل بمثابة فنار ونور إهتداء لمجموعة شباب سيشكلون حجر التنويع والإختلاف والتميز في خارطة الشعر الإسباني الحديث، ونعني بهم شعراء جيل الـ 27 المعروف، وهو الجيل الذي سيعيد الأمل للشعر الإسباني بجدواه وحضوره الكبير مقارنة بالشعر الأوربي الآخر.
ولعلنا سنلمس إختفاء أسم وتأثير خوان رامون خمينث في الأجيال التي ظهرت بعد الحرب الأهلية الإسبانية لأسباب واضحة، وهو بعدهم عن النموذج الشعري الصافي الذي تميزت به قصيدة خمينث، في الوقت الذي توجهت فيه جهودهم نحو نموذج شعري لصيق بالهم الإجتماعي الحياتي، شعرية تحريضية و نماذج قريبة من الهم اليومي والصراع الدائم للبشر ودفاعهم عن الحياة أزاء قسوة التسلط السياسي آنذاك. ولكن شعرية خمينث وتأثيرها سيبرز بشكل أهم في نموذج شعراء ما سيسمون فيما بعد بالـ quot;تجديديينquot; أو جيل الستينات وما يليه من أجيال تالية حتى نهاية القرن العشرين. من هنا نلاحظ أن الأجيال المعاصرة تجد في خمينث شعرية غير قابلة للتحجيم وقدرة تجديدية مؤهلة كي تكون حاضرة في كل منهج شعري معاصر.
إن شعر خوان رامون خمينث يعيدنا بشكل وبآخر لمفهوم عزلة الشاعر وإخلاصه الحقيقي والأولي للشعر نفسه، دون أن يعارض من حيث المبدء، شيوع الكلمة من خلال الحسية الطاغية و الشفافية أو النقاء الخالص. نظرة وقراءة واعية لنموذجه الشعري بلغته الأصل، أو مثلما عليه هنا في المنتخبات المترجمة للعربية، تؤكد لنا الضدين: التجاوب والإختلاف معها في آن واحد. وهي الفكرة نفسها التي أعلنها الشاعر طوال حياته الأدبية، فكرة التواصل من خلال الأثر الراكز للمعنى الحقيقي للكلمة وليس الحركة المربكة للدوي الصاخب.