&
كان فلاديمير نابوكوف في السابعة من العمر عندما بدأ اهتمامه بجمع الفراشات وهو اهتمام سرعان ما تحول الى عشق عميق تواصل طوال حياته وسار جنبا الى جنب مع حياته الادبية غزيرة الانتاج والتي بدأت بنشر أشعار وقصائد قبل قيام الثورة الروسية في عام 1918.
يعرف العالم نابوكوف (1899-1977) كاتبا وأديبا وروائيا كتب بالروسية وبالانكليزية غير انه كان يتقن الفرنسية ايضا بفضل تربية خاصة وفرتها له أسرته ميسورة الحال إذ كان والده واحدا من اهم رجال القانون في عصره في مدينة سانت بيترسبورغ التي ولد فيها نابوكوف وكان جده وزيرا في عهد القياصرة الروس. غير ان لهذا الروائي اهتمامات اخرى تتعلق بعلم الاحياء لاسيما الفراشات حيث وضع دراسات عن اكثر من 85 نوعا منها نشر عددا منها خلال وجوده في شبه جزيرة القرم التي فر اليها بعد ان غادر مدينته الاصلية. وبعد اعوام قليلة عندما كان طالبا في السنة الاولى في جامعة كامبردج نشر بحثا علميا في مجلة "علم الحشرات". وكان نابوكوف قد نشر تسع روايات باللغة الروسية وواحدة باللغة الانكليزية عندما لملم أغراضه في عام 1940 وهاجر الى نيويورك ليعمل خبيرا في المتحف الاميركي للتاريخ الطبيعي ثم خبيرا في متحف هارفارد في مجال علم الحيوانات المقارن في العام اللاحق ومما يذكر عن تفاصيل حياته انه كان يكرس 14 ساعة يوميا تقريبا لرسم اجنحة الفراشات واعضائها التناسلية.&
عرف نابوكوف بدقته المتناهية في رسم هذه التفاصيل وهو جهد قررت جامعة ييل تكريمه من خلال كتاب صدر هذا الاسبوع يحمل عنوان "الخطوط الدقيقة" ويتضمن 154 رسما وتخطيطا علميا انجزها الكاتب العالم خلال حياته وبعضها ينشر للمرة الاولى. &
ويقول خبراء إن هذا الكتاب اشبه ما يكون بجزء آخر يضاف الى روايته المعروفة "نار خافتة" إذ عرف نابوكوف بلغته المعقدة في وصف المشاعر الانسانية وباهتمامه المفرط بالتفاصيل وبطريقة سرد غريبة تتداخل فيها الاحداث ويمتزج الواقع بالخيال وهو ما يظهر جليا ايضا في هذه الرسومات والملاحظات العلمية التي ترافقها حتى يخيل للمرء انه يدخل عالما غير واقعي صنعه نابوكوف صناعة متقنة الى درجة تشعر الرائي ان في الامر شيئا من الخيال. ولكن الحقيقة هي ان كل ما رسمه وسرد تفاصيله في هذه الرسومات العلمية كان واقعا لا يمكن ان ينكره احد، لاسيما العلماء.&
عرف عن نابوكوف أنه كان يكتب رواياته على بطاقات خاصة مخصصة للبحوث العلمية حجمها 4x6 انج وهي نفسها التي خط عليها رسوماته مرفقة بملاحظاته البحثية ونكتشف ذلك من المقدمة التي وضعها ستيفن ايج بلاكويل وكورت جونسون لكتاب "خطوط دقيقة". ونكتشف ايضا ان نابوكوف منح في عام 1909 اسما لاتينيا لفراشة غريبة تابعها في تلك الفترة غير انه سرعان ما اكتشف لاحقا ان هذا النوع كان معروفا وكان قد منح اسما لاتينيا آخر قبل ذلك بأعوام قليلة، في عام 1897. ولكن حلمه باكتشاف انواع غير معروفة سابقا من الفراشات ومنحها اسماء لاتينية تحقق لاحقا في عام 1944 وكان اهمها الفراشة الزرقاء المعروفة باسم Karner blue والتي كرس لها رسومات عديدة ووصفها بدقة متناهية حتى ارتبط اسمه بها علما انها نوع مهدد بالانقراض حاليا. ونلاحظ من الكتاب ان نابوكوف اولى اعضاء هذه الفراشة التناسلية والفراشات الاخرى بشكل عام اهتماما خاصا لاسيما وان هذه الاعضاء معقدة ومحيرة للغاية بالنسبة للعلماء. ويكتب بلاكويل وجونسون في المقدمة "اكتشف نابوكوف أماكن داخلية واشكالا غريبة داخل اعضاء الفراشات التناسلية ونجح في وصفها وصفا دقيقا في رسوماته". ونكتشف من الكتاب ايضا أن نابوكوف كان يعتقد ان تشكيلة اجنحة الفراشات تكشف عن نوعها الحقيقي او ما يدعى بتميزها الجيني كما كان يعتقد ان الفراشة الزرقاء ظهرت تاريخيا في قارة آسيا ثم ما لبثت ان انتقلت عبر سيبيريا الى قارة اميركا الشمالية ليمتد وجودها لاحقا الى تشيلي. وكان أقران نابوكوف لا يؤمنون تماما بكل هذه النظريات العلمية التي طرحها في ذلك الوقت حتى اثبتت فحوصات الحمض النووي الحديثة صحة كل ما قال وهو ما يضاف الى سجله العلمي المبهر.&
اجمل ما يمكن ان يقال عن هذا الكتاب انه يظهر ان نابوكوف كان روائيا وعالما مهاجرا ومغتربا ومبحرا في عوالم يمتزج فيها الواقع والخيال ليشبه بذلك فراشته الزرقاء التي انتقلت من مكان الى مكان حتى انتهت الى موقع بعيد تختلط فيه ذاكرة الاشياء واشاراتها وطرق رصدها.
&