يجب علينا أن نتعامل مع كرة القدم، وخاصة العالمية، من زوايا أكثر اتساعاً، وألا نجعلها مجرد لعبة ومنافسة رياضية، ومكايدة جماهيرية بين أنصار هذا الفريق أو ذاك، أو لحظات مرح في مقهى رفقة الأصدقاء، فالساحرة تتسع لما هو أكثر أهمية من ذلك، بل تتسع لما هو أكثر تأثيراً على الأخلاق والقناعات.

على سبيل المثال، منحنا الألماني يورغن كلوب المدير الفني لفريق ليفربول درساً لا يمكن تجاهله بالأمس (الأحد)، حينما تخلى عن خلافاته (المعلنة والتي شاهدها الجميع) مع محمد صلاح، ودفع به أساسياً في مباراة ليفربول وتوتنهام، بعد أيام من المشادة الكلامية العنيفة بينهما والتي شاهدها العالم أجمع.

بمفهومنا، ووفقاً لرؤيتنا، كان من الطبيعي ألا يدفع كلوب بالنجم المصري أساسياً عقاباً له، وحفاظاً على صورته وهيبته كمدرب، وربما كان يحتفظ به على مقاعد البدلاء مثلاً باعتبار ذلك حق أصيل للمدرب، ورؤية فنية، وقرار لا تدخل لأحد فيه.

مفاجأة "بمفهومنا نحن"
لكن ما حدث أن كلوب دفع بصلاح أساسياً، وكأن شيئاً لم يكن، والمفاجأة أن صلاح تألق وأبدع وسجل هدفاً وصنع آخر، وشارك في هدف ثالث، ليكون اللاعب الأكثر تأثيراً في فوز ليفربول على توتنهام برباعية لهدفين، والمفاجأة الأكبر (بالنسبة إلينا بالطبع) أن كلوب خرج عقب المباراة ليقول إن صلاح لاعب استثنائي، ودائماً يصنع الفارق، أي أنه يمتدحه ويتحدث عنه بكل موضوعية وتجرد، بل بكل حب وتقدير.

العقل المحترف
ما هذا الذي يفعله كلوب؟ إنه ببساطة "العقل المحترف" الذي لا يعرف ما نطلق عليه (شخصنة الأمور)، بل إنه ينظر بكل تجرد لمصلحة الفريق الذي يتولى تدريبه، وهو يدرك جيداً أن صلاح عنصر مؤثر، ومن ثم قرر تنحية الخلافات الشخصية جانباً، ودفع بصلاح أساسياً، بل امتدحه عقب المباراة.

ما هذا الذي يفعله كلوب؟ إنها ببساطة "الثقة في النفس"، فهو ليس بحاجة إلى أن يقول للعالم أنا أقوى من صلاح، أو أقوى من أي لاعب، لأنه ببساطة المدرب والقائد الأكبر للفريق.

ما هذا الذي يفعله كلوب؟ إنها الأمانة والإخلاص في العمل حتى لو كان ذلك على حساب مشاعر خاصة قد تسيطر عليه وتجعله يغضب من هذا اللاعب أو ذاك.

ما هذا الذي يفعله كلوب؟ إنها طاقة التسامح التي جعلته يبتلع الاساءة التي وجهها إليه لاعب أصبح نجماً، وهي نجومية تحققت على يد كلوب نفسه، فهو يدرك جيداً أنه المدرب الأكثر تأثيراً في مشوار ونجومية صلاح، فقد منحه كل شئ على المستوى التكتيكي وطور من مستواه طوال 7 سنوات، ومن ثم قرر أن يتعامل معه بكل هذا الحب والتسامح.

المدرب والإنسان
كلوب ليس مدرب كرة قدم، بل هو فيلسوف، وإنسان، وعقل كبير، وقلب محب، وشخصية تستحق أن ينظر إليها عشاق كرة القدم من زاوية أكبر بكثير من هذه اللعبة الجميلة، ولمن لا يعلم فإنه، بالرغم من المكانة الكبيرة التي بلغها في عالم التدريب، وبالرغم من حدة المنافسة بينه وبين بيب غوارديولا على سبيل المثال، إلا أنه لم يتردد في أن يقول بكل تواضع :"غوارديولا أفضل مدرب رأيته في حياتي"، ونحن نقول لكلوب في موسمه الأخير مع ليفربول :"أنت أروع مدرب إنسان رأيناه في ملاعب كرة القدم العالمية".