سمعنا عن الانتحاري الذي يقتل نفسه ويقتل معه آخرين كأسلوب انتقامي لضعيف من قهر قوي. لكن أغرب ما شاهدناه وسمعناه في العصر الحديث ظهور أنظمة سياسية انتحارية، على غرار الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم ليوقعوا أكبر عدد من الخسائر في صفوف العدو. فالنظام السياسي الانتحاري لا يوقع أي خسائر بالعدو، بل يسلك سلوكاً خاطئاً يوقعه في مأزق كبير لا يستطيع الخروج منه، فيعلن نفسه التحدي النهائي، وهو ما نسميه الانتحار (النصر أو الشهادة).

ومفهوم النصر عند الأنظمة الانتحارية انتظار عطف الدول القوية ليتركوا له أملاً بالبقاء وتحقيق بعض الأهداف للحفاظ على ماء الوجه، والشهادة بمعنى أن يخلد نفسه للأجيال، بعد أن تأكد للجميع أن النظام السياسي سائر إلى الزوال.

بالنسبة إلى الشخص الانتحاري، كنت دائماً أعتبر أنَّه ذلك الإنسان الذي يصل إلى مرحلة لا يستطيع عقله معها تحمل وجود جسده في الحياة، فيقرر التخلص من جسده بأي طريقة كانت لكي يلبي طلبات النفس أو العقل، فيخلد للراحة ويزيح عن كاهله هماً كبيراً يسلبه راحته، حاله حال الإنسان الذي ينتحر يائساً من الحياة، ولكن الفارق بينهما أن عقل اليائس من الحياة أوصله إلى هذه المرحلة، بينما الانتحاري الذي يقتل الناس أو الأعداء فإنَّ عقله خضع لتأثير عقول أخرى، وقررت له الانتحار.

حديثنا نقترب به إلى معرفة الأنظمة السياسية الحاكمة، التي ارتضت الانتحار بعد أن فشلت في سلوكها السياسي الذي أوصلها إلى المهالك، ولنا أمثلة كثيرة في هذا المجال حدثت بالماضي وتحدث هذه الأيام، لأنَّ هذه الأنظمة لم تعد قادرة أن تقدم شيئاً لشعوبها ولا للإنسانية، ولا هي قادرة على العودة إلى الوراء لتصحيح مسارها، وقد وقعت في عدة أخطاء كبيرة وجب عليها دفع ثمنها.

نريد أن نسلط الضوء على نقطة حساسة في هذا الطرح، وهي كيف ولماذا يضع هذا النظام السياسي نفسه في عنق الزجاجة، فيجعل الانتحار سبيله الوحيد لتغطية سلسلة الفشل؟ وما الخطوات الخاطئة التي توصله لهذا المستنقع؟ أقولها بكل وضوح إنَّ أي نظام سياسي يزحف قادته نحو الدكتاتورية أو المركزية المطلقة التي تحمل نفسها أهدافاً ومبادىء أكبر من حجم نظامها السياسي، ينتهي بها المطاف إلى الانتحار السياسي.

إقرأ أيضاً: الترابط بين حرب أوكرانيا والحرب في منطقتنا

لماذا؟ هناك مرحلة تسبق انتحار النظام السياسي، هي مرحلة إسكات الصوت المعارض الذي يفضح الأخطاء، وبسبب حب فرض الرأي الواحد، فإنَّ القائد أو النظام السياسي القائم يسعى للتخلص من منافسيه في الداخل ليتفرد بالسلطة دون مراعاة لمصلحة البلد، فيتخلص من عقول تقوم الخطأ، فيصبح ما تبقى من رجال السلطة الذين يحيطون بالقائد أو النظام السياسي يخشون على حياتهم ويطيعون قادتهم، ولا يتجرأون على مخالفة ما يصدر عنهم، وعندما يخطىء القائد يسكتون، وعندما ينجح يصفقون، فتتراكم عنده الأخطاء، لأنَّ الفرد الواحد، مهما كان علمه، فإنَّ أخطاءه تزداد مع مرور الوقت.

تراكم الأخطاء تنتهي بالخطأ القاتل، الذي يضعه أمام قرار الانتحار السياسي. هذا السلوك الخاطىء سقط فيه الكثير من القادة، منهم من هلك ومنهم من ينتظر ساعة هلاك نظامه السياسي، وعندما ينهار نظامه السياسي تنهار معه كل مؤسسات الدولة، لأن حتى مؤسسات الدولة لم تترك مستقلة، فكل مخالف بالنسبة إليهم منبوذ ومطرود أو مقتول، عكس الدول التي تبقى مؤسسات الدولة فيها مستقلة، ويتمتع النظام القضائي والنظام التشريعي بالاستقلالية، فإذا سقط النظام السياسي لا تسقط الدولة.

إقرأ أيضاً: الصحيحة والجرباء

سقوط أيّ نظام سياسي يؤدي إلى سقوط كيان الدولة، لأنه دليل اختفاء الرأي الأخر أو قوى المعارضة السياسية داخل النظام والدولة، ولنا مثال في النظام السياسي الذي قاده أدولف هتلر وصدام حسين ونظام معمر القذافي ونظام بشار الأسد ونظام كوريا الشمالية والمنظمات الإرهابية، وحتى بعض الدول التي تتشبث بالديمقراطية وتظن نفسها أنظمة ديمقراطية شكلية… دائماً ما نجد الإعلام الذي يقوده أعداء القائد أو النظام الانتحاري يركز في بثه الإعلامي على شخص أو اشخاص في ذلك النظام، ليجعل منهم البعبع المخيف، وهذا أسلوب يدفع تلك القيادة إلى المزيد من الدكتاتورية وفرض الرأي الواحد، فيحصن نفسه أكثر ويصيبه الغرور حتى يصل مرحلة التخبط والوقوع في الخطأ الكبير الذي يجعله يختار طريق الانتحار السياسي.