الحدث الثقافي والسياسي البارز الذي تعيشه فرنسا مطلع خريف العام الحالي هو صدور كتاب عن دار"غاليمار" المرموقة بعنوان: "رسائل إلى آن". وهو يحتوي على رسائل حبّ كان قد أرسلها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران إلى عشيقته السريّة آن بينجو بين عام 1962 وعام 1995. وتبدو هذه الرسائل التي كتبت بلغة بديعة لا تختلف عن لغة كبار الأدباء والشعراء الفرنسيين، وكأنها تروي قصة عاصفة بين شخصيّة سياسية كبيرة تركت بصماتها واضحة على التاريخ الفرنسي على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، وامرأة ذات نزعة رومانسية أحبت رجلا كان يكبرها بحوالى ثلاثة عقود، وظلت وفية له حتى اللحظة الأخيرة من حياته، رغم أنه رفض الطلاق من زوجته دانيال غوز التي أنجبت له ولدين. أمّا هي فقد أنجبت له بنتا سمتها مازارين. ولم يكشف أمرها إلى بعد رحيله.

وقد بدأت قصة الحب هذه في عام 1962، في ذلك الوقت، كان فرانسوا ميتران في السابعة والأربعين من عمره. وكان قد فرض نفسه في بلاده كشخصية سياسية بارزة وذكية، متقلدا مناصب رفيعة. فقد كان وزيرا أكثر من مرة. كان سيناتورا. وكان زعيما للحزب الإشتراكي. وكانت هي فتاة بورجوازية حالمة، شبيهة ببطلات الروايات العاطفية في القرن التاسع عشر. وكانت مفتونة بالفنون، ومغرمة بأعمال مشاهير الفنانين من القدماء ومن المعاصرين. وفي ما بعد، وتحديدا في الفترة التي حكم فيها عشيقها فرنسا، ستشرف على متحف"دورساي" الشهير. وفي أول لقاء بينهما، تحدث فرانسوا ميتران الذي كان يمتلك ثقافة واسعة تكاد تكون نادرة لدى رجالات السياسة، في بلاده، وفي العالم، عن سقراط. وفي أول رسالة بعث بها إليها بتاريخ 19 اكتوبر 1962، هو يعدها بأن يرسل لها كتابا عن سقراط كان قد نصحها بقراءته خلال اللقاء المذكور. وفي 15 نوفمبر من العام المذكور، كتب لها يقول: ”التقيت بك وفي الحين أدركت أنني سأنطلق في رحلة طويلة. وهناك حيث سأمضي، أعلم على الأقل أنك ستكونين في ذاك المكان.أبارك هذا الوجه، يا نور حياتي. لن يكون هناك ليل أبديّ بالنسبة لي. وحدة الموت ستكون أقل من أن تكون وحدة.آن، يا حبي". وفي رسائله، يتحدث فرانسوا ميتران عن جمال مشاهد طبيعية، وعن ألوان السماء في مناطق مختلفة من فرنسا، وعن لعبة الغولف، وعن كتب أعجبته، متجنبا الحديث عن السياسة إلاّ في ما ندر.ومرة كتب لها يقول: "حبّنا يعطي شعورا بالأبديّة".&

وفي رسالة بتاريخ 23 نوفمبر كتب لها يقول: ”عزيزتي آن، عندما وصلت إلى Aigle، هذه المدينة الصغيرة في "أورن"، حيث انعقد الإجتماع السياسي الذي حدثتك عنه، بلغني خبر اغتيال كينيدي (يعني الرئيس الأميركي جون كينيدي). ومثل الكثير من الرجال والنساء عبر أنحاء العالم، شوّشني هذا الخبر، وأقلقني كثيرا. وليس الموت هو الذي أدهشني، وأغضبني: فنحن نلتقيه في كلّ المنعرجات، لكن الكراهية. والغباء. وأنا أشعر بنوع من الفزع وأنا أراهما ينتصران مرة أخرى. وقد عدت&إلى باريس في الليل بما أن الساعة كانت تشير إلى الرابعة صباحا، عبر طريق جعلته العواصف المطرية، ومناطق يلفها الضباب، عسيرا. والحقيقة أن السماء لم تكن أبدا جميلة طوال رحلتنا إلى Beauvais . لكن النور، والحرارة والفرح وكل هذا لا يأتي من أيّ شمس أخرى إلاّ من تلك التي تسكننا". وفي 18ديسمبر 1964، تحدث فرانسوا ميتران عن الممثلة الإيطالية الشهيرة مونيكا فيتي ، وكتب يقول:”لأول مرة تأخذ مونيكا فيتي مكانا لها في هذه الرسائل. إنه ترمز بالنسبة لي إلى الجمال في عصرنا". وفي&هذا الشهر نفسه، كتب يقول:”الساعة تقترب من منتصف الليل. أنا جالس أمام مكتبي، وأكتب لك بينما تنطفئ آخر نغمات "هليلويتنا". أحيانا أستمع إلى هذه الموسيقى. إنها تحدثني عنك يا آن. أعتقد أنها تشبهك، أو هي تشبه على الأقل نوعا من آن ، الأكثر سرية، والأكثر حقيقية، والأكثر صرامة (وأول شيء بالنسبة لها). أحب أن تكون آن هذه موجودة.وللوصول إليها، لا بدّ من الصمت، ومن القوة، قوة البحث والفهم. ليس هذا ملائما، وإنما هو&مثير. وفي ليلة الأحد 3 مايو على الساعة الحادية عشرة ونصف، كتب لها يقول:”وضعت صورتك، أمامي على مكتبي. ليس لأنني أحبها للصورة التي تمنحها لي عنك، وإنما ، وخصوصا، للدلالة التي تحملها للأبد، في نهاية يوم سوف أبارك ذكراه طوال حياتي. قبل قليل، ودعتك. أضأت لمبة سهراتي (حصان فينيسي من النحاس هو بمثابة الدعامة لكمة المصباح، لونه عسليّ، وهو من النسيج المشدود). أفكر فيك، وبحنان فيّاض بحيث يستحيل على قلبك في هذه اللحظة ألاّ يشعر بذلك".

وفي 3 يوليو 1970، كتب فرانسوا ميتران لآن بينجو يقول: ”إنها موجة عاتية، يا حبيبتي، تلك التي تأخذنا، وهي تفصل كلّ واحد منّا عن الآخر، وأنا أصرخ، أصرخ، وأنت تسمعينني من خلال فرقعة، وأنت تحبينني، وأنا لك يائسا، ولكنك لم تعودي ترينني، وأنا لم أعد أعرف أين أنت، وكلّ بؤس العالم تراكم فيّ، ولا بد أن أموت ، لكن البحر يفعل بنا ما يشاء وما يريد. نعم أنا يائس. هل تبقى وقت لاسترداد الأنفاس والتوازن؟ أه يا حبيبتي، حبيبة الحياة العميقة، لقد تمكنت من أن أحسب بعض درجات الألم. لعلها الكلمة الهادئة الوحيدة في هذه الرسالة : سأظلّ أحبك حتى نهاية نفسي، وإذا ما كانت لك حجة للإيمان بالله حتى نهاية العالم”. وفي آخر رسالة، وكانت بتاريخ 22 سبتمبر 1995، كتب لها يقول: ”كنت نصيب حياتي. فكيف لا أحبك أكثر".