عندما استقال ميخائيل غورباتشوف منذ ما يقارب الـ 25 سنة– ما أدى إلى نهاية الاتحاد السوفياتي المفاجئة – لم يكن قادة روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء قد تركوا له خياراً. وكان الرجال الثلاثة قد وقّعوا معاهدة قبل 17 يومًا من حلّ الاتحاد السوفياتي – وهو قرار خطير اتّخذ على ما يبدو بدون تخطيط مسبق.

إيلاف من بيروت: بحلول ديسمبر 1991، كان جدار برلين والشيوعية في أوروبا الشرقية قد اختفيا منذ فترة طويلة. لكنّ الاتحاد السوفياتي كان لا يزال قائمًا، يحكمه الحزب الشيوعي بقيادة ميخائيل غورباتشوف. وكان قد ضعف بسبب انقلاب المتشددين في أغسطس 1991، غير أنّ مشكلته الأكبر، مع مشارفة العام على الانتهاء، كانت حركات الاستقلال في عدد من الجمهوريات السوفياتية. وكان بإمكان الاتحاد السوفياتي النجاة بدون جمهوريات البلطيق - استونيا ولاتفيا وليتوانيا - ولكن ليس بدون أوكرانيا أو روسيا.&

جدول أعمال الاجتماع الثلاثي

وكان رئيس أوكرانيا المنتخب حديثًا، ليونيد كرافتشوك، يبحث عن وسيلة للتحرر من موسكو، ورئيس روسيا، بوريس يلتسين، حريصاً على انتزاع مزيد من السلطة من غورباتشوف. لذا، عندما اتفقا على الاجتماع يوم 8 ديسمبر، مع نظيرهما البيلاروسي، ستانيسلاف شاشكفيتش، كان من الممكن التوقع أن أمراً سيئاً ينتظر غورباتشوف.&

ومع ذلك، يبدو أنّهم لم يجروا أي اتفاق مسبق لتوجيه ضربة قاضية للاتحاد السوفياتي. فقد كان شاشكفيتش مصرّاً على أن جدول أعمال الاجتماع تمحور حول إمدادات النفط والغاز من روسيا إلى بيلاروسيا في فصل الشتاء، قائلاً في اتصال هاتفي: "كان اقتصادنا في أزمة، ولم يكن بإمكاننا دفع ثمن الإمدادات، ولم نملك أي مصدر يقرضنا المال - لذلك أردنا أن نطلب من روسيا مساعدتنا، حتى لا نتجمد في برد الشتاء. وكان ذلك الهدف من اجتماعنا . وقد دعونا أوكرانيا أيضا، لأننا أردنا أن نكون شفافين ولم نرد إبرام صفقات مع موسكو من وراء ظهر أوكرانيا".

والمثير للإزعاج هو انقطاع الاتصال باستمرار. ويوضح شاشكفيتش &أنه حتى الآن، بعد مرور ربع قرن من الزمن، ما زال التحدّث في موضوع تفكك الاتحاد السوفياتي محظوراً في روسيا البيضاء، مضيفاً أنّ انقطاع الاتصال هو من عمل أجهزة المخابرات البيلاروسية.&

والجدير بالذكر أنّ ذكريات ليونيد كرافتشوك مختلفة تمامًا، فالقائد الأوكراني السابق يصرّح أن لا فكرة لديه عن قصّة النفط والغاز التي أخبرها شاشكفيتش: "لم يذكر أحد أمامي أي شيء عن النفط والغاز. ظننت أنني ذاهب إلى هناك لمناقشة مستقبل الاتحاد السوفياتي، فالبلاد كانت ممزقة بسبب التناقضات وشعبها كان منهكاً من الأزمات والصراعات والحروب والطوابير. اجتمعنا في روسيا البيضاء لمناقشة المصير الذي تتجّه البلاد نحوه، وربما لتوقيع عريضة، أو إعلان، من أجل لفت الانتباه إلى الأزمة التي كنا نواجهها".&

خطر إخفاء الأمر عن غورباتشوف

ولكن بغض النظر عن مضمون جدول الأعمال المعدّ له مسبقًا، فالزعماء الثلاثة – من بينهم الرئيس الروسي بوريس يلتسين- عرفوا أن الدعوة لعقد اجتماع دون إبلاغ غورباتشوف في الأساس كان نوعاً من المخاطرة. وفي هذا السياق، أشار شاشكفيتش قائلاً: "بالطبع كان من الممكن أن يلقي الكي جي بي السوفياتي القبض علينا، بناء على أوامر من غورباتشوف – فقد كان من الواضح أنّ الكي جي بي السوفياتي كان يخضع لأوامر غورباتشوف، وليس يلتسين. لكنّ رئيس مخابراتنا البيلاروسية المحلية، إدوارد شركوفسكي، بقي على اتصال مع مخابرات يلتسين السرية. وطوال الأسبوعين اللذين سبقا الاجتماع، كان يؤكّد لي يوميًا أنّ احتمال اعتقالنا غير وارد".&

وأضاف: "المثير للاهتمام أنّه لاحقاً، عندما تقاعد شركوفسكي وذهب ليعيش في روسيا، قال ما يناقض ذلك تمامًا. فقد أعرب عن أسفه لأنه لم يلقِ القبض علينا في العام 1991! لقد كان من الصعب معرفة ما يجري."

ولكن، في نهاية العام 1991، رأى أولئك القادة الإقليميون أنّ ميخائيل غورباتشوف في غير مكانه، وبحسب كرافتشوك "فهو كان لا يزال رئيساً صوريّاً بالطبع، لكنّه لم يكن يملك أية سلطة! وبعد الانقلاب ضده في أغسطس 1991، كان قد فقد السلطة. وصحيح أنّه عاد بعد ذلك، لكنّه لم يكن يملك أي سلطة فعليّة. رأينا أن السلطة كان تؤول لزعماء الجمهوريات. وعلى الرغم من أن غورباتشوف كان يرغب في إعادة تنظيم البلاد على شكل نوع جديد من الاتحاد، فلم يستطع فعل ذلك حقًا ".

اتّخاذ القرار الحاسم&

لذلك، في 7 ديسمبر 1991، توجّه الرئيس الروسي بوريس يلتسين والزعيم الأوكراني ليونيد كرافتشوك ورئيس روسيا البيضاء ستانيسلاف شاشكفيتش &إلى ملكية ريفيّة، مخصّصة إلى المسؤولين الشيوعيين الأبرز، في بيلافيزا، بالقرب من الحدود البولندية. ويصف شاشكفيتش المكان قائلاً: "كان هذا المقر فاخراً جدًا، ومعدّاً لاستقبال كبار المسؤولين السوفيات. وكالمعتاد في مثل هذه الاجتماعات، كان حمام البخار مدرجاً على القائمة. وعادة، بعد ذلك، يتمّ تقديم الكثير من الكحول- ولكن في هذه المناسبة، بدلاً من الكحول، حصلنا على جلسة تدليك. لقد تمّ تنظيم الاجتماع وفقاً لأفضل التقاليد السوفياتية، فكان غنياً بالأطعمة، والشراب، ومرافق الاسترخاء، وفرصة الذهاب للصيد ".

في اليوم التالي، يوم 8 ديسمبر، الساعة التاسعة صباحاً، اجتمع القادة، مع وزرائهم ومسؤولين مختلفين يرافقونهم، لإجراء مفاوضات – ويبدو أنّه كان من غير الواضح بعد ما الذي سيناقشونه.

وجاء الاقتراح الأول من أحد المستشارين الروس، غينادي بربيولس – وقد كان جذرياً. ويعلّق شاشكفيتش على ذلك قائلاً: "لن أنسى هذه الجملة حتى مماتي". فقد كان ذلك البيان الافتتاحي لاتفاقنا، الوحيد الذي اعتمد بدون أي نقاش: جمهوريات الاتحاد السوفياتي، كواقع جيوسياسي، خاضع للقانون الدولي - لم يعد لها وجود". وكنت أول من صرّح أنّه سيوقّع على ذلك".

هذا الاتفاق كان من شأنه جعل الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف غير ذي صلة، وإعطاء المزيد من السلطة في موسكو إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسين.

هل كان القادة بكامل وعيهم؟

غير أنّ رسم نهاية الإمبراطورية الروسية القائمة منذ قرون، ووريثها الاتحاد السوفياتي، كان خطوة كبيرة. وبعد سنوات، تساءل الكثيرون عمّا إذا كان السياسيون الثلاثة بكامل وعيهم عند اتخاذ هذا القرار البالغ الأهمية.

ويقول شاشكفيتش : "وفقا لأسطورة شعبية، وضعنا اتفاقنا بينما كنا ثملين. هذا عار عن الصحة! وبطبيعة الحال، كان ترتيباً سوفياتياً نموذجياً، وكانت الكحول متاحة مجاناً في كل أرجاء المكان- لكنّ أحداً لم يلمسها. كلّ ما سمحنا به لأنفسنا كان قطرة من البراندي في كل مرة اعتمدنا مادة جديدة ".

في الساعات القليلة التالية، تم اعتماد 14 مادة ككل. وبحلول الساعة الثالثة بعد الظهر تقريباً، كانت الوثيقة التي تؤكد تفكك الاتحاد السوفياتي جاهزة. وكانت الخطوة التالية إبلاغ العالم بذلك، وقد وقع الاختيار على القائد البيلاروسي لإنجاز هذه المهمة الصعبة.

"قال يلتسين وكرافتشوك لي على سبيل المزاح:" لقد صوتنا لترشيحك لإبلاغ غورباتشوف ". فأجبت: "وبدورنا أنا وكرافتشوك قمنا بترشيحك، يا سيد يلتسين، للاتصال بصديقك المقرّب، الرئيس الأميركي جورج بوش".&

ويتابع كرافتشوك &قائلاً: "اتّصلت بمكتب غورباتشوف في موسكو - لكنهم لم يحوّلوني مباشرة، بل راحوا يمررون الاتصال من جهة إلى أخرى، واضطررت الى شرح من أنا مرارًا وتكرارًا. في هذه الأثناء، قام يلتسين، الذي رأى أنني أجري مكالمة إلى موسكو، بالاتصال بالرئيس بوش، وكان [أندريه] كوزيريف وزير الخارجية [الروسي]، على الخط الآخر، يترجم تعليقات بوش ".

أما القائد الأوكراني ليونيد كرافتشوك فكان يستمع آنذاك. وفي هذا الإطار علّق قائلاً: "بحسب ما أتذكّر، طرح بوش سؤالين. هل سترث الدولة الخليفة للاتحاد السوفياتي كلّ موجباته؟ والثاني، ماذا سيحدث للأسلحة النووية السوفياتية؟ لم نستطع التعليق على موضوع الأسلحة النووية بما أننا لم نكن قد ناقشنا هذه المسألة بعد. أما بالنسبة إلى الموجبات، فقد أكد يلتسين: نعم، سنتحمّلها".

وبحلول ذلك الوقت، تمكّن أخيراً زعيم روسيا البيضاء، شاشكفيتش، من الوصول إلى غورباتشوف، ومرة أخرى، كان الزعيم الأوكراني يصغي إلى الحديث. ووفقاً لكرافتشوك "كانت محادثة صعبة. كان غورباتشوف يسأل شاشكفيتش بغضب:’ماذا فعلت؟ لقد قلبت العالم كله رأسًا على عقب! القلق يسيطر على الجميع!’ لكن شاشكفيتش &بقي هادئاً ". &

حتى يومنا هذا، مازال الزعيم البيلاروسي فخوراً بالطريقة التي عالج فيها تلك المحادثة الحاسمة مع موسكو: "شرحت لغورباتشوف نوع الوثيقة التي كنا على وشك توقيعها، فأجاب، بنوع من الفوقيّة،" وماذا عن المجتمع الدولي؟ هل فكرت في ردة فعلهم؟ فكان ردّي: "في الواقع، بوريس يلتسين يتحدث إلى الرئيس بوش الآن - ويبدو أنّ بوش لا يمانع ذلك! لا بل حتى يشجّعنا عليه!"

الاتحاد السوفياتي يتلاشى من الوجود

في الساعة التالية، وقّع الزعماء الثلاثة وثيقتهم التاريخية في مؤتمر صحافي أقيم لهذا الغرض. بعد المؤتمر، كان وقت الذهاب إلى المنزل قد حان – عندئذ شعر ستانيسلاف شاشكفيتش بالتردد والخوف.

" عندما كنت عائداً إلى دياري، كنت أستمع إلى الراديو في السيارة، لمعرفة ما يجري في العالم، وأول شيء لاحظته كان تكرار اسم يلتسين وكرافتشوك بكثرة – ولكن عندما كانوا يصادفون اسمي، لم يتمكّنوا من لفظه بشكل صحيح. فكنت أسمع مرارًا وتكرارًا على أي موجة أضبطها، كرافتشوك، يلتسين، وش ... فيتش ... وطرق لفظ متنوعة لإسمي. أدركت عندئذ، أنّنا شكّلنا مادة إخبارية دسمة. وحتى تلك اللحظة، كنت مشغولاً للغاية، ولم أكن قد وجدت وقتاً للتفكير. لكنني في ذلك الحين، شعرت بالخوف. وفكرت:" 82% من برلماننا الإقليمي من الشيوعيين، اذا لم يصادقوا على هذه الاتفاقية - سأكون قد ارتكبت خطأ، وسأشهد نهاية مهنتي السياسية! ".

&لكنّ البرلمانات الإقليمية الثلاثة صادقت على الاتفاقية، وانضمت إليها الجمهوريات السوفياتية الأخرى في خلال الاسبوعين اللاحقين. وفي 25 ديسمبر، استقال الرئيس غورباتشوف، وأصبح الاتحاد السوفياتي من الماضي.&

أعدّت "إيلاف" هذا التقرير بتصرّف نقلاً عن "بي بي سي". المادة الأصلية منشورة على الرابط التالي: & &

http://www.bbc.com/news/magazine-38416657