عاش يهود الحريديم المتشددون في إسرائيل لفترة طويلة حياة من العزلة تركز على دراسة الدين. لكن عددا متزايدا منهم بدأ يخرج عن هذا التقليد ويثبت بشكل مثير للدهشة نجاحا في قطاع شركات التكنولوجيا الناشئة.

ديفيد بيكر يلقي الضوء في هذا التقرير على قصة اندماج بعض يهود الحريديم في عالم التكنولوجيا.

يقول موشيه سلافين (26 عاما) وهو شاب من الحريديم من القدس ويدرس برامج التشفير: "تعلم التلمود (كتاب تعليم الديانة اليهودية) يتضمن تركيز تفكيرنا حول مشكلة معينة ودراستها من مقاربات مختلفة ومحاولة الحصول على حلول مختلفة."

وأضاف: "البرمجة هو أمر مشابه جدا لذلك خاصة في طريقة التفكير".

ومثل العديد من أصدقائه، فإن سلافين نشأ وهو يتوقع أن يعيش حياة تعلم ديني هادئة. وحسبما هو معتاد، فإن يهود الحريديم يقضون جُل أوقاتهم وهم يدرسون التوراة والتلمود ويتركون زواجاتهم يخرجن للعمل، ويعيش تقريبا نصف يهود الحريديم في إسرائيل هذا النمط من الحياة.

لكن مع ارتفاع تكاليف المعيشة في السنوات الأخيرة، خفضت الحكومة من إعانات الأطفال للأسر، وهو نبأ سيء لعائلات يهود الحريديم التي تلد في الغالب ما بين ثمانية إلى عشرة أطفال وتعتمد على الإعانات لتلبية احتياجاتها.

ونتيجة لذلك، بدأ المزيد من الحريديم مثل سلافين البحث عن عمل، وتحول انتباههم نحو قطاع التكنولوجيا المزدهر في إسرائيل.

تُعرف إسرائيل بأنها "دولة الشركات الناشئة"، ويرى الكثيرون قطاع التكنولوجيا فيها بأنه يأتي في المرتبة الثانية خلف وادي السيليكون في الولايات المتحدة، وأنه يحتاج إلى المزيد من المبرمجين والمطورين.

رجال يدرسون التوراة في الصباح ويتعلمون برمجة الكمبيوتر بعد الظهر

وقد لا تبدو التكنولوجيا الخيار المنتظر من جانب اليهود المتدينين الذين تلقوا تدريبا بسيطا للغاية أو ربما لم يتدربوا على الإطلاق في مجال العلوم أو الرياضيات. ولا تُدرّس هذه المواد في مدارس اليهود الحريديم بالإضافة إلى اللغة الانجليزية، وهي اللغة المشتركة لجميع الفعاليات التكنولوجية حول العالم.

لكنها التكنولوجيا تنطوي على مهارات يمكنهم تعلمها سريعا نسبيا. ويشير موشيه سلافين إلى أنه سواء كان ذلك صحيحا أم لا، فإن هذا التعلم الديني يمثل طريقة إعداد جيدة، إذ أن يهود الحريديم لا يحتاجون إلى قضاء سنوات للدراسة لتأهيل أنفسهم، وحينما يحصلون على وظيفة، فإن الراتب يكون جيدا في أغلب الأحيان.

ويقول يوني رايس وهو مبرمج من الحريديم عمل لدى مجموعة من الشركات التكنولوجية، إن عالم الفعاليات التكنولوجية والتمويل الاستثماري للشركات الناشئة مختلف تماما عن الحياة الدينية المنغلقة ليهود الحريديم، معتبرا أن الجمع بين الاثنين يمكن أن يمثل تحديا.

وأضاف: "نحن لا نأكل نفس الطعام، ولا نشرب نفس النبيذ، ولا نذهب إلى نفس الأماكن. ولذلك فإنه ليس من السهل أبدا الاندماج الاجتماعي في شركة علمانية".

وهذا هو نفس المجال الذي انخرط فيه موشيه فريدمان. تحول فريدمان إلى رجل أعمال في مجال التكنولوجيا بعد أن كان حاخاما، ويدير "كاماتك" وهي منظمة تجمع بين شركات ناشئة يديرها متشددون يهود وغيرهم من المستثمرين في أغلب الأحيان.

نشأ فريدمان في أوساط مجتمع الحريديم، وعندما بدأ العمل في التكنولوجيا، بدأ يتعرف بشكل كبير على العالم الخارجي.

يقول فريدمان: "التقيت آخرين كثر، وأدركت أنهم كانوا ينظرون إلي وكأنني قادم من كوكب آخر، مثل شخص من العصور الوسطى". وأضاف: "لم يعتقدوا بالفعل أن لدي أي فرصة لفعل شيء مفيد في مجال التكنولوجيا".

الحاخام موشيه فريدمان (الثاني من اليسار) يأمل في بناء علاقات مع الشركات الناشئة والمستثمرين

ولكن، بدافع من تاريخ عائلته، فإنه ملتزم بتحسين الاندماج بين الحريديم وباقي المجتمع الإسرائيلي. كان الجد الأكبر لفريدمان هو الحاخام الأكبر في القدس، وكان هو الحاخام الذي حظر دراسة الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية في مدارس الحريديم.

وقال فريدمان: "كان يعتقد أن الدين والتقاليد يجب حمايتهما من أي تأثير خارجي. وكان ذلك قبل 100 سنة، وقد نجح في ذلك. ولذا كان لجدي الأكبر دور في أن يوجد فإن يوجد حاليا في إسرائيل مليون متشددين، يمثلون حوالي 12 في المئة، وهؤلاء منفصلون عن العلوم ولا يتحدثون اللغة الإنجليزية. أشعر بأن هناك شيئا أشبه بمهمة على عاتقي لكي أصلح ما فعله والد جدي".

الحريديم في إسرائيل

- يشكل الحريديم نحو 11 في المئة من سكان إسرائيل، ويعيشون غالبا في أحياء أو مدن يقطنها بشكل حصري اليهود المتشددون. - يرتدي الرجال قمصان بيضاء وسراويل سوداء ومعاطف سوداء طويلة وقبعات سوداء، وهي الملابس التي جاءت من الجاليات اليهودية في القرن الـ18 من روسيا وبولندا

-ترتدي نساء الحريديم ملابس تغطي المرفقين والركبتين، والكثير من النساء المتزوجات يرتدين شعرا مستعارا حتى لا يظهرن شعرهن الطبيعي لأسباب تتعلق بالاحتشام.

- لا توجد أجهزة تلفاز أو انترنت في العديد من منازل الحريديم، وفي أغلب الأحيان لا يوجد بها كتب غير دينية أو موسيقى. - يقضي أطفال الحريديم معظم فترات تعليمهم في دراسة التوراة والتلمود، ومن المعتاد أن يستمر الرجال في هذه الدراسة طوال حياتهم.

لا يتفق الجميع مع رؤية فريدمان. يرى كثيرون في مجتمع الحريديم العلمانية باعتبارها تشكل تهديدا وجوديا لليهودية، وهؤلاء قلقون بشكل خاص من مخاطر الانخراط في عالم التكنولوجيا الفائقة، وخاصة الإنترنت.

ويقول الحاخام مردخاي بلاو، رئيس أوصياء القداسة والتعليم في المحاكم الحاخامية في مدينة بني براك إن "(الإنترنت) كارثة". وبني براك هي مدينة يقيم فيها تقريبا فقط يهود متدينون وتقع شرقي تل أبيب.

وأضاف: "هناك عائلات انهارت بسبب الإنترنت، وذلك بسبب مجتمع تعود على أن يعيش حياة منعزلة واكتشف فجأة عالما جديدا على شبكة الانترنت، إنها (شبكة) ليبرالية ومفتوحة وهي خطر رهيب".

لكن هناك آخرين أكثر حرصا على الحفاظ على حياتهم الدينية وهم يعملون في إطار التيار التقليدي السائد في إسرائيل. تشيفدا كلاينهاندلر امرأة من الحريديم تدير شركة ناشئة تسمى "لين اون"، التي تساعد الناس على إيجاد مرشدين لتقديم المشورة لهم في حياتهم المهنية. وتعيش كلاينهانلر حياة متدينة في بني براك، ولكن زملاءها في العمل إسرائيليون غير متدينين، ويوجد مقر شركتها الناشئة داخل مكتب مايكروسوفت في مدينة هرتسليا.

وتقول كلاينهانلر إنه من الممكن تماما أن تحافظ على هوية اليهود الحريديم في وسط مهني غير ديني.

وخلال عملها طوال الأسبوع تكون كلاينهانلر متصلة بوسائل التكنولوجيا الحديثة كأي شابة صغيرة، وتفحص هاتفها باستمرار وتتجاهل مخاوف الحاخام بلاو بشأن الانترنت.

تشيفدا كلاينهاندلر (يسار) مع زميلة في العمل لا تنتمي ليهود الحريديم

وتقول: "إنني متفانية في العمل، وحتى حينما أكون في إجازة آخذ معي الكمبيوتر المحمول وهاتفي آيفون والكمبيوتر اللوحي الخاص بي واتصل بالأصدقاء عبر تطبيق واتس آب وبرنامج ماسنجر وكل شيء. وإذا حدث شيء، فإن الجميع يمكنهم أن يجدوني".

لكن في ليلة الجمعة وقبيل بدء يوم السبت، حين يحظر على اليهود المتدينين استخدام الأجهزة الإلكترونية، فإن كلاينهانلر تقطع اتصالها بالانترنت والأجهزة التكنولوجية.

وتقول كلاينهانلر: "أغلق هاتفي قبل ثانية (واحدة) من حلول يوم السبت، إنه أمر صعب جدا بالنسبة لي، لكنها وسيلة مثالية للانفصال عن العالم الرقمي".

وتضيف: "كون الشخص متدينا وملتزما دينيا، فهو أمر داخلي يظهر في كل شيء تفعله، في أعمالك وفي لقاءاتك وفي تفاعلاتك مع الآخرين وفي طعامك. إنني أحب الاندماج، ولذا من المهم جدا بالنسبة لي ولمجتمعي الحفاظ على إخلاصنا الديني".

وتقر كلاينهانلر بأنه كان يجب عليها أن تبذل جهودا مضنية لفهم الثقافة العلمانية التي تعمل فيها.

وتقول: "حينما تكون أقلية، فإنك تحتاج دائما إلى أن تعرف لغة الأغلبية، وعاداتهم وما هي الطريقة الشائعة لسلوكهم. ينبغي عليك أن تجيد ذلك بطلاقة لتؤدي مهامك بشكل جيد ولا ينبغي أن تبدو شاذا".

وتقول كلاينهانلر إنه سيكون أمرا رائعا أن ترى العلمانيين الإسرائيليين يبذلون جهدا أكبر للاندماج معها.

وتضيف: "أحيانا أتمنى أن يكون هناك شخص يفهم العالم الذي جئت منه ويفهم أيضا عوالم الناس الآخرين".