عبدالعليم حريص

شيخ تسعيني شارف المئة إلا قليلاً، ملامح وجهه لا تعكس شيئاً، سوى التاريخ، يفوح من حديثه الماضي بكل تفاصيله: نجاحاته، ونكباته إنه محمد عمر المختار آخر من بقي من صلب شيخ المجاهدين، وآخر من سيحمل اسمه .
والده رجل بحجم أمة، فهناك بلاد تُعرف بأبنائها، وهناك رجال تعرف ببلدانها، لا تُذكر الأراضي الليبية، إلا وسيرة عمر المختار تلوح في مخيلتك وذكرى 11 من سبتمبر 1931 يوم سقوطه أسيراً ، ومحاكمته الهزلية وإعدامه صبيحة الأربعاء بعدها بخمسة أيام .
بعد 83 عاماً من استشهاد "أسد الصحراء" عمر المختار زار ابنه محمد (93 عاماً) الإمارات، أخيراً لأول مرة في حياته، لينال تكريماً خاصاً لأسرة تاريخية متميزة، من منظمة الأسرة العربية بالشارقة، وعلى هامش الزيارة أجرينا معه هذا الحوار:

* استقبلنا الحاج محمد بوجهه الطلق وبسؤاله من أين نبدأ الحديث . .؟
- من الإمارات فما رأيته من رخاء واستقرار اجتماعي ينعم به الشعب الإماراتي، لهو مدعاة لشيوخ عشائرنا أن يتلمسوا خطى "حكيم العرب" الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان- طيب الله ثراه - حين قام وإخوانه الشيوخ بلم الشمل وتوحيد الصف والكلمة لنرى وطناً وشعباً من أسعد شعوب الأرض، فليت قياداتنا وقيادة شعوب المنطقة العربية، يمعنون النظر في هذه التجربة الاتحادية . .

* 10 سنوات ما بين ولادتك واستشهاد أبيك هكذا تقول الوثائق، فما صحة ذلك ؟
- لا أذكر على وجه الدقة ولكني ولدت عام1921 بمنطقة العويلية، بالقرب من المرج بشرق ليبيا، عشت مع والدتي ونيسة الجيلاني، وبعض من أقاربنا، وفي أواخر عام ،1927 هاجرت برفقة الأسرة إلى مصر برغبة من أبي ليتفرغ هو للقتال والحرب . قضيت في مصر 18 عاماً نزلنا بمنطقة الحمام وتنقلنا ما بين سيدي براني ومطروح والإسكندرية وغيرها من المناطق المجاورة، تلقيت تعليمي في مدرسة الشاطبي بالإسكندرية وفيها علمت بإعدام أبي .

&

&

* نشأ والدك يتيماً، حين عهد جدك المختار بتربيته وأخيه محمد إلى حسين الغرياني شيخ زاوية جنزور وأنت نشأت يتيماً فما تعليقك . .؟
- كان أبي وقتها ابن 16 عاماً حين خرج جدي حاجاً إلى مكة بصحبة زوجته عائشة، وافته المنية وقبل وفاته أوصى رفيق رحلته أحمد الغرياني بأن يبلغ أخاه حسين شيخ زاوية جنزور بتربية ولديه ورعاية شؤونهما .

* هل رافق عمك محمد والدك في جهاده ضد الطليان . .؟
- نحن أسرة منظمة، فوالدي تفرغ للجهاد وعمي تولى إدارة شؤون البيت والزراعة وجعل أبناءه رفقاء لعمهم في كره وفره، أنجب عمي أربعة أولاد: المختار وعبدالقادر استشهدا في معارك وسالم تولى أمور البيت مع والده وتزوج فاطمة أكبر بنات عمه، وكانت له تكليفات كجمع التبرعات، وأحمد ظل مع أبي حتى وقع في الأسر . .

* حدثنا عن حياتك، خاصة أنك آخر من سيحمل في أوراقه الثبوتية اسم عمر المختار . .؟
- تزوجت مرتين، الأولى من ابنة عمي عزة الفيومي 1942 ولم أرزق منها بولد وتوفاها الله، وبعدها تزوجت من فاطمة الغرياني وهي لا تزال على قيد الحياة كان زواجنا سنة 1964 رزقت بأولاد منها لكنهم ماتوا صغاراً، لعل اسم عمر المختار لا يحتمل أن يوضع أمامه أحد سواي . .

* من 1911 دخول الطليان ليبيا وحتى 1931 استشهاد "أسد الصحراء" رحلة كفاح بدأتها أمة وخلدها رجل فما تعليقك . .؟
- والدي بدأ الكفاح ضد الاستعمار في سن مبكرة ولكنه تولى القيادة فعلياً في 1923 بعد عودته من جنوب البلاد، لأنه كان منتمياً إلى الحركة السنوسية قلباً وقالباً، وهي حركة صوفية، ومع زيادة التوغل الفرنسي في إفريقيا وضاق الخناق على السنوسية ما اضطرهم لنقل مقر القيادة من جغبوب إلى الكفرة جنوبي ليبيا، وهنا ابتعث المختار إلى تشاد والسودان، وظل يجاهد ضد التنصير في تشاد والمد الفرنسي، وقد عين شيخاً لزاوية "كلك" حتى توفي المهدي السنوسي وتولى أحمد الشريف السنوسي القيادة فأرسل لوالدي ليكون جواره، وبعدها بدأت مقاومة الغازي ولما انتهى أمره على مشنقة، حبالها لا أظنها فتلت من ليف نخيلنا . .! وبُعيد استشهاده لم تصمد حركة المقاومة كثيراً، 3 أشهر وتراجعت الحركة بشكل ملحوظ . .

* "التاريخ لا يعيد نفسه ولكن الأحداث تتشابه، إلا قليلاً"، 11 سبتمبر يوم له مدلول تاريخي، ومعاصر، يوم "سقوط" شيخ المجاهدين أسيراً فمن آخر من وقعت عينه على المختار من أسرته . .؟
- تبسم مستذكراً ثم أجاب: بداية الصدفة وحدها جعلت العالم يحفظ يوم سقوطه أسيراً، حتى إن نسينا أو غفلنا، يذكرنا به المتذكرون . . كان أبي في زيارة إلى سيدي رويفع الأنصاري بالقرب من مدينة البيضاء فوشى أحد إلى الطليان، بأن فرقة من 60 رجلاً قد يكون الشيخ عمر على رأسهم، فتمت محاصرتهم وأصيب فرسه وسقط والدي على الأرض جريحاً، لعله نظر إلى فرسه وتذكر رحلته معه وأدرك أنها النهاية، فبعد أكثر من 20 عاماً قضاها مدافعاً عن وطنه يعتلي صهوة جواده، ها هو الآن يفترش الأرض وفرسه "ينفق" أمام ناظريه، فلما رأى ذلك ابن أخيه أحمد منحه جواده، رفض وطلب منه أن يفر هو ومن معه، وبعد إلحاح استسلم الشيخ لرغبته، وقبل أن يشد قامته المتعبة ويهمّ بالركوب، وقع في الأسر، "فكان النافق آخر ما ركب المختار"، تجمع الجنود حوله صاح جندي ليبي "سيدي عمر سيدي عمر" لا أدري من باب الوشاية أم الخوف عليه، فتهلل الغزاة بصيد الثمين، وهنا قال المختار للجندي مقولته "عطك الشر وابليك بالزر ولا حول ولا قوة إلا بالله"
وتوقف محمد عن الحديث برهة ثم استكمل: وأطل داود باتشي متصرف درنة على الأسير فتعرف إليه لأنه التقاه في إحدى المفاوضات، ومن ثم نقل إلى ميناء سوسة ليقضي ليلته التي لا نعرف عنها شيئاً سوى أنه كان صامداً، وصباحاً بدأت رحلته الأخيرة قافلاً إلى بني غازي على ظهر "طراد" مركب حربي، ليحمل بحراً وهو لم يعرف سوى الجبال والوديان وعلى ظهر "طراد" وهي المرة الأولى والأخيرة التي ركب فيها والدي وسيلة تنقل غير الحصان .
وتمتم الحاج محمد: ليتهم نقلوه براً ليودع كل شبر في ليبيا، داسته أقدامه أو لمحة بصره المحدود نظر المتسع وجعاً .

* ماذا كان من أمر أحمد ابن أخيه . .؟
- مضى مستتراً بظلام الصحراء، وبصحبته تواتي عبد الجليل أحد أبرز حرس الشيخ، ظلا يواصلان السير مشياً على الأقدام من منطقة البيضاء حتى دخلا مصر، ولم يكن معهما سوى حذاء واحد فظلا يتبادلان انتعاله، لوعرة الطريق وما يعتريهم من عثرات وهوام الأرض، استغرقت رحلتهم شهراً حتى دخلوا علينا في مصر .
"أما زكري منفية قائد حرسه أو كما يطلق عليهم (قائد طابور المعية) فتوارى عن الأنظار حتى كُشف أمره، فبعد 3 أشهر ظل متخفياً، خرج ليطلب مقصاً يخفف شعره، وشى به أحدهم، فتم القبض عليه ومحاكمته وأعدم في برقة"، ولما وصلنا أحمد كان الخبر سبقه، فلم يجد عناء في مواساتنا، فالأمة العربية كلها بكت الشهيد، ظل أحمد وصيّاً علينا، يدير شؤوننا ويعمل ليوفر لنا لقمة العيش، حتى عدنا إلى ليبيا على ظهور الخيل محررين أرضنا حاملين لواء المختار فوق رؤوسنا .

* ما تبقى من ذاكرتك من عمر المختار الأب . .؟
- ملامح وجهه لا أعي عليها ولكن عساني أتذكر أنه زارنا في مصر مرة وعند الفجر أيقظ الجميع للصلاة لعل هذا هو المشهد الذي يعلق بذاكرتي ولم أسأل نفسي لماذا رسخ في ذهني وما انفك أن يفارقه، كان الجميع يحبه ويهابه، حكوا لنا "أن زوجته جبهة بنت محمد بو نجوى كانت ترفع بيدها باب الخيمة ليدخل المختار حتى لا ينحني إلا لله" .

* "لم يشتغل العالم بمقبرة الإسكندر المقدوني بقدر اهتمامهم بنظارة عمر المختار ترى من يرتدي هذه النظارة كيف سيرى العالم من حوله بعيونه أم بعيون صاحبها، فأين هي الآن؟
- تبسم الكهل ولوح بيده قائلا: كان معه اثنتان الأولى سقطت منه في إحدى المعارك فتلقفها الغزاة بعظيم التفاؤل، ولما وصلت إلى وزير المستعمرات غراتسياني أصدر منشوراً قال فيه: "لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغداً نأتي برأسه" كان ذلك في أكتوبر 1930 .
وحينما دخل عليه المختار مكبلاً بعد واقعة النظارة بعام،أخرجها غراتسياني وسأل أبي: أتعرف هذه . .؟ فرد أبي: إنها نظاراتي قبضتم عليها، وها أنتم قبضتم عليّ، لا حاجة لي بها فعندي غيرها .

* أما ما ورد في فيلم عمر المختار من أن ولداً التقط نظارته فهذه دلالة لاستمرارية الجهاد، حتى ادعى البعض أن القذافي هو الصبي الذي أخذها . . .!
- أنا أشاهد الفيلم كثيراً، نجح أنطوني كوين في سبر أغوار الشخصية إلا أن أبي كان بلحية أصغر قليلاً، وطوال تواجد كوين والعقاد مخرج الفيلم بليبيا لم ألتقِ بهما، وإن كان فيه تجاهل لبعض القيادات والأدوار إلا أن كل شيء معروف ومحفوظ في ذاكرة الشعوب فهي لا تنسى ولا ترحم أحياناً ظالميها . .
أما نظارته فهي تستريح الآن في زاوية من متحف السرايا الحمراء بطرابلس ومعها سلاحه ومحفظته التي لم تكن تحوي سوى أدوات بسيطة كإبرة ليخيط ثوبه، أشياء متواضعة لشيخ عظيم، تسلمناها من إيطاليا بعد مماطلات عديدة، وما زلنا نطالب حتى الآن بما تبقى من أغراضه كثوبه و"الجرد" الذي كان متدثراً به .

* كيف كان شعورك عندما انحنى رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني ليقبل يدك؟
- على المستوى الإنساني هو لم يفعل بأبي شيئاً، ولكنها مفارقة تاريخية أذهلت المراقبين حدثت في سبتمبر 2008 عندما انحنى برلسكوني، يقبل يدي معتذراً عن المرحلة الاستعمارية وما سببته إيطاليا من مآسٍ للشعب الليبي، وهي الصورة التي قورنت بصورة تاريخية أخرى يظهر فيها أبي مكبلاً بالأغلال قبيل إعدامه .

* الآن كيف ترى محمد عمر المختار . .؟
- أحياناً أراه ولا يراني، حملني أبي أمانة، ولم يكن هناك بدٌ سوى حملها وتكملة ما بدأه، أديت دوري في الحياة القصيرة - وإن طالت - أختم القرآن في الشهر 4 مرات ، أحب القراءة وخاصة الصحف اليومية،أهوى الصيد، وركوب الخيل، وأكل "البازين الليبي" وخبز التنور والعصيدة بعسل نحل، أحب الحياة وأكره الظلم، وأنزوي متأملاً حين يلفني الليل لأسترجع ما تبقى من ومضات ذاكرة تتآكل مع تعاقب السنين، فمنذ نعومة أظفاري، أراني والحياة في رهانٍ لا يهدأ إلا ليعود، حرمني الله "الأب" مبكراً ورُزقت "الأبناء"، ومشيئة الله توفتهم صغاراً، أردت أن أعقب "وارثاً" وأرادني الله "وتراً" . .
ورفع يديه للسماء داعياً: عسى الله أن يجمعني بهم جميعاً وألقى ربي وهو راضٍ عني .

زيجات وأبناء

أولى زوجاته من تشاد تدعى "فطوم" أو هاجر ولم ينجب منها سوى سارة ثم عاد إلى ليبيا عام 1902 وعين شيخاً لزاوية القصور ثم تزوج من نجوى بنت المبروك سعيد بوزيري البرعصي ولم تنجب توفاها الله فتزوج من شقيقتها زينة وأنجب منها فاطمة عام 1917 وتوفيت زينة بالمهجر (الديار المصرية) ثم تزوج من ونيسة بنت الشيخ عبدالله الجيلاني شيخ زاوية توكرة، وأنجب منها: عبدالله ويونس وعائشة ومحمد، توفيت ودفنت بمصر عام ،1934ومن ثم تزوج كريمة بنت محمد أبو فروة ولم ينجب منها وطلقها، ثم جبهة (سالمين) بنت محمد أبو نجوى المسماري ولم ينجب منها "واستشهدت جراء إحدى الغارات الجوية التي شنها المستعمر، وأخيراً تزوج شقيقتها فاطمة وأنجب منها ابنته صفية، ظلت معه فاطمة داخل ليبيا حتى قبض عليه، وبعدها نزحت كباقي العائلة إلى المهجر وتوفيت هناك" .

&