&علي محمد فخرو

أغلب محاولات فهم ظاهرة الجهاد التكفيري العنفي ركزت على خلفياتها وأسبابها، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وانتهازيتها السياسية. لكن قليلة هي الكتابات عن الخلفيات والأسباب النفسية.

ذلك أن كثيراً من الممارسات الجنونية، المتعارضة مع التوازن العقلي والروحي ومع القيم الإنسانية، التي لا يمكن أن يفسرها المنطق أو الدين، والتي يرتكبها يومياً بحق الأبرياء أفراد وجماعات الجهاد الإسلامي التكفيري، لا يمكن أن تفسرها إلا مختلف النظريات والافتراضات التي قام عليها علم النفس.

إن أب ومؤسًس علم النفس، سيغموند فرويد، خلص إلى أن الجزء الواعي من تصرفاتنا العقلية ليس أكثر من رأس جبل جليدي في مياه بحر أو محيط. أما الجزء اللاواعي، الذي يحدد عملياتنا العقلية الواعية ويهيمن عليها ويوجهها، فإنه هو الذي يمثل الجزء الأكبر من جسم الجبل الجليدي الذي يبقى غير مرئي تحت سطح الماء. إذاً، فجزء اللاوعي هو أساس شخصيتنا وتصرفاتنا مع محيطنا.

ما يهمنا بالنسبة إلى موضوعنا هو ما أسفرت عنه دراسات تكوّن ذلك اللاوعي الغامض، سواء من قبل فرويد أو العديد من كبار علماء النفس الآخرين، والتي أظهرت أن في الإنسان نوازع حيوانية متوحشة، وغرائز عدوانية، وأحاسيس داخلية تهيئه ليصبح قاتلاً وعنفياً سادياً، ولتصبح الجماعة مدمرة شيطانية. في ذلك المكان من نفس الإنسان، المظلم المملوء بالأسرار والتناقضات، تقبع غريزتَي الحياة والموت جنباً إلى جنب.

إذاً، فان تلك النوازع والغرائز والأحاسيس المدمرة القابلة للانفجار في أية لحظة، تحتاج إلى معايير ووسائل ضبط لها، من مثل ضوابط القيم الثقافية أو سلطة القانون، أو أعراف المجتمع، أو أنها تحتاج إلى تحليل وعلاج نفسي لإخراجها من ظلام اللاوعي المريض إلى نور الوعي العقلاني المتشافي. السؤال الأساسي هو: ما هو الدور الذي يلعبه الشحن الديني اللاعقلاني المتزمت، المنطلق من فهم خاطئ للقرآن والأحاديث النبوية والتراث الفقهي، في تأجيج وشيطنة أسوأ ما في منطقة اللاوعي تلك، وفي قلب الإنسان، من إنسان معقول أخلاقي سوي إلى إنسان حيواني متوحش وشرير؟

بالطبع، يمكن قلب ذلك السؤال إلى سؤال آخر معاكس: هل أن كل ما في منطقة اللاوعي من أحاسيس ورغبات خطرة تنفجر عند «الجهاديين» من وراء قناع الدين، وباسم الدين، حتى لا يشعر هؤلاء بالخزي والعار من جراء تصرفاتهم؟ أي، هل أن الدين استعمل لإزالة كل العوائق والمحددات الثقافية والقانونية والأخلاقية التي فرضها التحضر على الإنسان من أمام الغرائز لتعبر عن نفسها بلا رقيب أو حسيب؟ إذاً، من الذي يستعمل من؟ الدين الخاطئ يستعمل كل ما في منطقة اللاوعي لتبرير وجوده ونشر تعاليمه وتحقيق الأغراض الدنيوية لقادته على الأخص، أم اللاوعي يستعمل صفاء الدين وسمو مكانته في عقول وأرواح البشر من أجل تبرير انفجاراته المجنونة اللاعقلانية؟ أياً كانت الإجابة عن السؤالين تبقى فرضية الارتباط الوثيق بين ظاهرة «الجهاد الإسلامي» التكفيري الإرهابي المجنون في كثير من تصرفات قادته وأتباعه، وبين الكثير من الفرضيات والتفسيرات لعلم النفس الحديث.

هذا الارتباط يفسر إلى حد ما لاحظه الكثيرون: انخراط جزء من الشباب في حركات الجهاد التكفيري ورفض جزء من الشباب الانخراط، مع أنهم يعيشون في البيئة نفسها، ويعانون المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية نفسها. نحن أمام قابلية نفسية عند البعض وعدم قابلية نفسية عند البعض الآخر.

هنا نصل إلى استنتاج أساسي: لقد استعملت فرضيات ودراسات علم النفس بشأن وجود أحاسيس وغرائز مكبوتة في منطقة اللاوعي عند الإنسان.. استعملت في شتى الحقول، من مثل السياسة لتحسين صورة الأحزاب والأفراد أثناء الانتخابات، أو من مثل الاقتصاد في الترويج لبعض البضائع، أو من مثل الحقل العسكري لإقناع الجنود بالموت في سبيل الوطن؟

فالغريزة الجنسية المكبوتة جرى إيقاظها واستعمالها لبيع الثياب والسيارات والعطور والسجائر وغيرها. وغريزة العنف المكبوتة جرى التلاعب بها من قبل الحركات الفاشية لإثارة كره هذه الجماعة أو تلك. وغريزة الموت المكبوتة جرى الاستفادة منها لجرّ الشعوب إلى مغامرات عسكرية عبثية.

إنها قصص طويلة لاستعمالات انتهازية ونفعية، وأحياناً تدميرية مفجعة، لكل ما توصل إليه علم النفس الحديث. والغريب أن بعضاً من أفراد عائلة مؤسس علم النفس هم الذين لعبوا أدواراً بارزة في الاستعمالات الخاطئة الانتهازية المضرة لعلم النفس، خصوصاً في عالمي التجارة والسياسة. لقد ساهم هؤلاء في إيقاظ الرغبات المكبوتة وفي خلق الرغبات الجديدة وفي استعمال الرغبات من أجل المصالح النفعية.

إذاً، لن يكون غريباً أو بعيداً، أن جزءاً مهماً من لعبة الجهاد التكفيري المجنون هو استعمال الدين لتأجيج الرغبات المكبوتة، ولخلق رغبات جديدة، حتى ولو كان ذلك الدين المستعمل لا دخل له مع دين الإسلام، بمقاصده القيمية الكبرى، وتحريره للإنسان من كل أنواع العبودية، ودعوته للمساواة والرحمة والسلام.

هذا موضوع يحتاج لأن يدرسه ويقيّمه علماء النفس العرب ليكتمل فهم هذا الجنون الذي أدخل العرب في جحيم تاريخي مرعب ومدمر.