محمد بن عبدالرحمن البشر

عندما تعالت بعض أصوات الشعب البريطاني منادية بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وتعالت أصوات أخرى من الشعب منادية بالبقاء، لم يتقاتل الشعب البريطاني، ولم تتجاهل الحكومة المطالب، فقررت استفتاء الشعب لأخذ رأيه، وإن كانت آنذاك مقتنعة أن أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي هم الفائزون لا محالة، ولولا ذلك فربما تأجل الاستفتاء إلى حين.

تم الاستفتاء، وانتهى الأمر بغير ما تشتهي الحكومة, وبنسبة لا تكاد تذكر. ومع هذا فقد احترم الجميع رأي الشعب بتلك الأغلبية الطفيفة، وكان الغالب من المصوتين للخروج هم فئة كبار السن، بينما كان الشباب مناصرين للبقاء رغم أنهم الأكثر تضرراً لمنافسة القادمين من أوروبا الشرقية لهم، كما أن أسكوتلندا قد صوتت للبقاء، أما ويلز فقد صوتت للخروج في الوقت التي صوتت عاصمتها كاردف للبقاء، أما لندن فقد صوتت وبنسبة كبيرة للبقاء.

هكذا إذاً كان التمايز بين أفراد الشعب داخل المملكة المتحدة، التي ظلت متماسكة في ظل أزمة حقيقية كان من ضحاياها رئيس الوزراء والجنية الإسترليني، فالأول استقال، والجنيه هوى بشكل كبير.

كل ذلك جرى طبقاً للدستور والقانون والنظام، رغم أن الحدث كان مصيرياً لبريطانيا وأوروبا وربما الاقتصاد العالمي أجمع.
استمرت الحال وتم اختيار وزيرة الداخلية لتكون رئيسة للوزراء ولم تكن مؤيدة أو منادية للبقاء أو الخروج، وإنما كانت قابعة في منتصف الطريق، وبعد اختيارها للحكومة اختارت أكثر أعضاء الحزب مناصرة للخروج، وربما خصومه لرئيس الوزراء السابق ليكون وزيراً للخارجية ليتحمل مسؤولية المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي للكيفية التي سيتم بها الخروج.

رئيسة الوزراء الجديدة قالت: إنها ليست في عجلة من أمرها للخروج، أما الاتحاد الأوروبي فقد حث بريطانيا على التقدم بطلب المغادرة، ومن المؤكد وعلى لسان رئيسة الوزراء الجديدة أن ذلك لن يتم قبل نهاية العام، وهذا يدل على التريث والحكمة وأخذ الوقت الكافي رغم أن القرار قد اتخذ برغبة شعبية، وفي الوقت ذاته أكدت رئيسة الوزراء أن اسكتلندا التي صوتت للبقاء سيكون لها حضور بارز في المحادثات، وأن علاقتها مع الاتحاد سيكون مميزاً.

كل ما سطر أمر يهم البريطانيين وأوروبا وما حدا بنا لكتابة عن الموضوع هو أن كثيراً من المشاكل والتناقضات في الرؤى يمكن حلها من خلال القنوات القانونية والمفاوضات والوصول إلى حلول قد لا تحقق للطرفين مبتغاهم لكنها تحقق أفضل ما يمكن الوصول إليه لتستمر المسيرة، والأهم من ذلك التأقلم مع الواقع والعيش فيه بنمطه الجديد، كما هي حال بريطانيا والبريطانيين بعد إتمام إجراءات الخروج.

هذه الثقافة في إيجاد الحلول والقبول بها وإن كبرت المشكلة واختلفت الأهداف، بشرط بعدها عن الغايات الشخصية هي السبيل الأوحد، لأن البديل هو التناحر والتقاتل ليكون الجميع خاسراً مهما سمى نفسه منتصراً، وهذا ما شاهدناه في سوريا مثلاً بعد أن بادر النظام بالقتل والتدمير، في الوقت الذي كان بإمكانه الوصول إلى حلول وتجاوز المشكلة مع شيء من التنازل عن الممارسات الظالمة التي كان يفرضها على الشعب الذي لا حول له ولا قوة.

وهذا أيضاً يمكن ملاحظته في دول أخرى في المنطقة العربية وأفريقيا وآسيا وغيرها من الدول، والحال هذه يمكن أيضاً ملاحظتها في المجتمعات والأسر، ولذا فإن التفاوض واستخدام المنطق في الحوار أكثر الأدوات فاعلية في العيش بسلام، إلاّ إذا ابتليت الدول أو المجتمعات بجار، أو أناس يصمون آذانهم عن الحوار والحق، ويتمادون في غيهم، وهنا مما ليس منه بد.