محمد السعيد إدريس

تكشف متابعة الترتيبات التي يجري الإعداد لها، سواء بخصوص إنهاء الأزمة السورية، وعلى الأخص عقب انتهاء معارك حلب، وكذلك ما يخص العراق ومستقبله السياسي بعد اكتمال تحرير الموصل، أن هذه الترتيبات وما سوف تسفر عنها من نتائج، سوف تكون من أهم القواعد المؤسسة للنظام الجديد لإقليم الشرق الأوسط، وأنماط التحالفات والصراعات التي سوف تحكم تفاعلات هذا النظام.

اللافت في هذا الخصوص أنه في الوقت الذي كانت تجري فيه اتصالات عقد اجتماع جنيف الخاص بسوريا تحت إشراف الأمم المتحدة، وبدور قوي ومحوري لروسيا، بالتنسيق مع كل من تركيا وإيران. 

كانت هناك اجتماعات أخرى قد أنهت أعمالها في جنيف أيضاً، تخص مستقبل العراق، وبالتحديد دور ومكانة «سُنة العراق» في ترتيبات عراق ما بعد «داعش». والمفارقة اللافتة هنا مزدوجة، ففي الوقت الذي كانت فيه روسيا هي الطرف الفاعل والمحرك لمحادثات جنيف السورية، حيث كان للوفد الروسي عالي المستوى برئاسة نائب وزير الخارجية غينادي غايتلوف التأثير القوي في نجاح تلك المحادثات، كانت الولايات المتحدة في الوقت نفسه تقريباً هي من تشرف على محادثات أخرى في جنيف بدأت أعمالها يوم الأربعاء (18/2/2017) بالتنسيق مع «المعهد الأوروبي للسلام»، لبحث «مستقبل السُنة ما بعد الانتهاء من تنظيم «داعش»»، وبحث سبل تمويل وإعمار المدن التي دمرتها حرب الإرهاب، والترتيبات اللازمة لإنشاء قوات أمنية محلية مدعومة للحفاظ على الأمن والسلام، ومناقشة إنشاء الأقاليم الإدارية للمحافظات السُنية، كأهداف معلنة لهذه الاجتماعات. وكان الجنرال ديفيد بترايوس الذي كان قائداً للقوات الأمريكية في العراق، ثم عمل مديراً للمخابرات المركزية الأمريكية، هو من يقود الوفد الأمريكي في هذه الاجتماعات. هذا يعني أن هناك تقاسم نفوذ وأدوار روسي- أمريكي أخذ يفرض نفسه تدريجياً على سوريا والعراق.

وإذا كانت إيران وتركيا تعدان ركيزتين أساسيتين للمحادثات السورية إلى جانب روسيا الشريك الأقوى، فإن «إسرائيل» الغائبة شكلياً عن محادثات سوريا كانت الأحرص على أن تكون الأقوى تأثيراً في المستقبل السوري، من خلال علاقاتها مع روسيا، والجديد هو ارتكازها على دعم أمريكي غير مسبوق أعطاها الضوء الأخضر للتحرك إقليمياً على قاعدة استهداف إيران كمصدر أساسي للتهديد، على نحو ما ظهر جلياً في أعمال مؤتمر ميونيخ للأمن.

محادثات جنيف السورية قد تستأنف في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، على أن تسبقها محادثات في أستانة، وتم الاتفاق على أن جدول الأعمال سوف يتضمن (4 سلات) تتساوى في الأهمية هي: الإرهاب، والحكم، والدستور، والانتخابات، لكن هناك بنود أخرى من خارج الدائرة تسعى ««إسرائيل»» لفرضها ضمن مخرجات هذه المحادثات، أو كأمر واقع تخطط من أجل تنفيذه ضمن استراتيجية جديدة يمكن تسميتها ب«استراتيجية المقايضات»، حيث تطرح مقايضة الإشراف على إعادة إعمار سوريا بفرض سيادتها كاملة على هضبة الجولان، كما تطرح مقايضة أخرى مع روسيا تتضمن مقايضة تمكين روسيا من بسط نفوذها على سوريا بموافقة أمريكية، مقابل موافقة روسيا على تفكيك تحالفها مع إيران، وفق خطة صاغها وزير البناء والإسكان «الإسرائيلي» يؤاف غالنت، عرضها على المجلس الوزاري المصغر قبيل سفر نتنياهو إلى واشنطن، لتكون على رأس جدول أعمال لقائه مع الرئيس دونالد ترامب حملت اسم «خطة سياسية استراتيجية» لتحقيق المصالح «الإسرائيلية» في سوريا، تهدف إلى صد التهديد الإيراني الذي قد ينشأ على الحدود الشمالية ل«إسرائيل»، ومنع أي وجود سياسي، أو عسكري، أو أمني لإيران، أو «لحزب الله» على الأراضي السورية، والإصرار على منع تمكين إيران و«حزب الله» من فتح جبهة معادية ل«إسرائيل» في هضبة الجولان مشابهة للجوب اللبناني. 

إيران أيضاً التي كانت بعيدة عن محادثات جنيف العراقية لكنها كانت الغائب الحاضر، تماماً كما هو حال «إسرائيل» بالنسبة لمحادثات جنيف السورية، وكان حضورها يشكل ورقة اعتراض قوية (فيتو) على ما تدبره واشنطن من ترتيبات تستهدف احتواء النفوذ الإيراني في العراق من ناحية، كما تتضمن تخطيطاً لعودة أمريكية جديدة إلى العراق انسجاماً مع طموحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. 

كانت أعمال اجتماعات جنيف العراقية أشبه ما تكون باجتماعات عقدتها واشنطن في العاصمة البريطانية لندن عام 2002، وهي الاجتماعات التي أسست لإطاحة نظام الرئيس صدام حسين عام 2003، حيث نجحت واشنطن في تجميع معارضي نظام صدام الذين كانوا في أغلبهم قادة ورموز أحزاب «شيعية» وكردية، إضافة إلى ممثلين للحزب الإسلامي العراقي، ومن خلال هذه الاجتماعات تم تشكيل الطبقة السياسية الحاكمة الجديدة في العراق، واستطاعت تمكين هؤلاء من حكم العراق من خلال أدوار أداها حكام العراق الأمريكيون، ومن خلال دستور بريمر، لكن صدمة واشنطن أنها فوجئت بأن هذه الطبقة الحاكمة كانت أكثر ولاءً لإيران.

اجتماعات جنيف الجديدة يبدو أنها تستهدف تشكيل طبقة سياسية حاكمة جديدة بديلة في العراق، أكثر ولاء لواشنطن تعتمد على رموز سُنية، وأخرى شيعية، مع حرص على زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق التي يجري تدعيمها عدداً وعتاداً تحت ستار المشاركة في حرب تحرير الموصل من تنظيم «داعش». فإلى أي مدى سيكون النجاح حليفاً هذه المرة لواشنطن، وإلى أي مدى سيكون في مقدور الولايات المتحدة احتواء النفوذ الإيراني من العراق؟ وهل يكفي الرهان على سُنة العراق كي تؤمن الولايات المتحدة لنفسها عودة مأمونة جديدة إلى العراق؟

أسئلة مهمة تتصدى لها إيران عبر أدوات متعددة من أشكال القوة العسكرية، والاقتصادية، والمذهبية، ومن خلال استعدادات القوى السياسية الموالية وزعامات تدين بوجودها لطهران تركز الآن على خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة على قناعة تؤكد أن من يفوز بهذه الانتخابات هو من سيحكم العراق.