حتى الان يبدو أن "حزب الله" لن يشذ عن مسار حرب "المشاغلة" المنضبطة، حتى لو استمر في التعرض لضربات إسرائيلية موجعة كما هو حاصل لغاية اليوم. لكن قواعد الاشتباك التي تمسك بها "حزب الله" لم تمنع أن يخسر حتى الان ما يزيد على 250 عنصراً، بينهم قياديون ميدانيّون. انما مشكلة "حزب الله" هي أنه، في هذه المغامرة الخاسرة التي تورط فيها وورط بيئته وسائر البيئات اللبنانية الأخرى فيها، بدأ يواجه تململاً صامتاً في البيئة التي تحتضنه. التململ عائد الى أن أكثر من 170 يوماً من المواجهات لم تترجم الشعار الذي رفعه الأمين العام للحزب في اكثر من خطاب. فلا هي خففت من الضغط على غزة والفصائل المقاتلة فيها.

ولا أثر توجيه قوات مقاتلة من الجيش الإسرائيلي نحو الحدود مع لبنان على التحشيد في غزة. بمعنى آخر لا "مساندة" ولا "مشاغلة"، بل تدمير لعشرات القرى الحدودية، و اكثر من ثلاثمئة ضحية بين مقاتل ومدني، واستباحة إسرائيلية لقسم كبير من الأراضي اللبنانية التي صارت تحت مجهر الاستهدافات بالطيران والمسيرات، ولنا في استهداف مدينة بعلبك على مسافة 100 كيلومتر من الحدود مع إسرائيل فجر الاحد الماضي، ثم اغتيال مواطن سوري على مقربة من المعبر الحدودي الرسمي بين لبنان وسوريا. ومع ذلك يتمسك "حزب الله" بقواعد الاشتباك التي اسقطتها الإسرائيليون اكثر من مرة. لماذا؟ لأن حسابات طهران اليوم لا تلحظ حرباً مفتوحة مع إسرائيل. و"حزب الله" جزء من معاجلة الحرب الكبرى مع إسرائيل وربما الولايات المتحدة أولا لحماية النظام نفسه، وثانياً لحماية المنشآت النووية في مرحلة حساسة جداً بسبب ارتفاع خطر قيام طهران بصنع قنبلة نووية أو اكثر.

في هذا السياق، تحافظ طهران على استثمارها الاستراتيجي الأهم في المنطقة (أهم من الحوثيين) لأنه أحد الدفاعات الرئيسية في معركة بقاء النظام مستقبلاً. وحماية النظام تحتاج الى قدرة على فتح جبهة "ارماغيدون" ليس من ايران نفسها، ولا حتى من "الساحات" الأخرى مثل العراق واليمن. بل من لبنان وسوريا على التماس المباشر مع إسرائيل. و "حزب الله" الممسك اليوم بالساحة اللبنانية وبالسلطة الفعلية فيه برضى القوى السياسية المحلية او بتواطئها مرغمة مؤهل للعب دور كبير في المواجهة الكبرى المقبلة انطلاقا من الساحة اللبنانية واستتباعا من الساحة السورية المفتوحة امام حركة الفصائل الإيرانية وفي مقدمها "حزب الله" الذي يمسك بمناطق واسعة من ريف دمشق وصولا إلى المحافظات المتاخمة للحدود مع الجولان والأردن.

مع ذلك كله يمكن القول ان "حزب الله" يعاني من خسائر فادحة. ويعاني من سقوط سرديته بخصوص تورطه بهذه الحرب. ولم يتمكن امينه العام من اقناع أي طرف لبناني ما عدا نواة صلبة من بيئته بأنه يخوض حربا استباقية لمنع إسرائيل من اجتياح لبنان. وعليه ما عادت حكومة تصريف الاعمال الحالية في لبنان بقادرة على تأمين غطاء شرعي لحرب "المشاغلة" المكلفة في الجنوب اللبناني.

لقد فشل رهان طهران بأن تل ابيب بحكومتها الأكثر تطرفاً في التاريخ ستخوض حربا في لبنان وفق قواعد "حزب الله". وبما ان الاجتياح ليس مطروحا على الطاولة، فإنه يتوقع ان تتكثف الضربات الموجعة في كل مكان من لبنان ضد مروحة أكبر من أهداف على صلة بـ “حزب الله" لأن إسرائيل استفادت من حرب "المشاغلة" اكثر مما يتصور أصحاب قرار الحرب والسلم في لبنان.