أكثر الأمور تعقيدا في منطقة الشرق الأوسط عامة والمنطقة العربية خاصة هي مسألة العيش المشترك بين المكونات المختلفة إثنيا وثقافيا أو دينيا ومذهبيا، فبعد عشرات السنين من تأسيس هذه الدول بعد اتفاقية سايكس بيكو، وقيام أنظمة مختلفة التوجهات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فشلت جميعها في إقامة دولة المواطنة التي يرتقي فيها الانتماء على كل الهويات والثقافات، لأنها اختزلت المواطنة في الانتماء إلى القومية الأكبر والانصهار فيها، أو إلى دين الأغلبية أو المذهب السائد، على أن تكون دوما بقية المكونات الأخرى في تسلسلها من ناحية القيمة بعد المرتبة الأولى، فهم ما يزالون يشعرون بغبن كبير وانتقاص في آدميتهم ومواطنتهم، خاصة بعد الجرائم التي اقترفتها أنظمة البعث ومن شابهها فكرا وسلوكا في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران وبعض دول شمال افريقيا، وذلك باستخدامها سياسية الصهر القومي أو الأسلمة ومذهبياتها، كما حصل في ثقافة التعريب أو التتريك أو التفريس، وإلغاء المقوم الأساسي لمكون مثل الكورد وذلك بمنع استخدامهم اللغة والثقافة الكوردية لحقب طويلة من الزمن، وتحريم إي محاولة للتفكير بحرية تقرير المصير، ليس للكورد فقط بل لجميع المكونات غير العربية أو غير التركية أو الفارسية في كل من تركيا وإيران وبلاد شمال أفريقيا، ورغم أن الجزء الجنوبي من كوردستان استطاع تحقيق بعض أهداف شعبه هناك في الفيدرالية، إلا انه ما يزال يلاقي تحديات كبيرة ومعارضة شديدة في موضوع حق تقرير المصير من قبل المكون الأكبر هناك.

إن المنطقة بأكملها تدفع اليوم ثمن تلك السياسات العنصرية والشمولية في إقصاء المكونات القومية والدينية، وما يحصل الآن في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، ومتوقع أن يحصل في المغرب والجزائر والسودان والسعودية وتركيا وإيران ، إنما يؤكد فشل وانهيار الأنظمة الشمولية والقومية العنصرية، التي ما تزال تصر على نهج إلغاء الآخر المختلف قوميا أو دينيا أو مذهبيا، وفرض إرادة المكون الأكبر دون الأخذ بحقوق الآخرين الشركاء في الأرض والمال.

 

لقد آن الأوان بعد ما يقرب من قرن من الزمان على اتفاقية سايكس بيكو، وثبوت فشلها ونتائجها الوخيمة التي تسببت في بحور من الدماء بين تلك المكونات والأنظمة التي تحكمها، لوضع حلول جذرية لأخطاء فظيعة وقعت بها الدول العظمى في حينها حينما أسست كيانات دون اخذ رأي الشعوب فيها، وحري اليوم بالدول الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا التي كانت تتقاسم العالم، وما تزال تهيمن على مقدراته ومستقبله، أن تعمل مع ممثلي المكونات المتضررة في هذه الكيانات لوضع أسس خريطة جديدة لاتفاقية تلغي اتفاقية سايكس بيكو وترسم حدودا جديدا للتعايش السلمي والحضاري بين المكونات بعد مئة عام من الكيانات التي فرضت عليها غصبا عنها ودون استشارتها، وذلك من خلال إشراف الأمم المتحدة على إجراء استفتاءات عامة حرة ونزيهة للسكان والمكونات لتقرير مصيرها في تلك الكيانات أو الاستقلال عنها، بما يتيح فرصة لإنشاء نظام جديد في المنطقة بعيدا عن ذلك الإرث الفاشل من النظام السياسي الذي ينهار اليوم في معظم دول سايكس بيكو.

فإذا كانت ثقافة الشراكة قد فشلت لأكثر من مئة عام بين المكونات، فحري بنا اليوم التفكير في ثقافة أخرى تعتمد الجيرة بينها، لكي يتجاوز الجميع هذا البحر الهائج من الحروب والدمار، ولعل في انفصال جيكوسلوفاكيا وتطورها إلى دولتين جارتين أفضل درس لأولئك المخدرين بشعارات عفا عليها الزمن ولونتها الحروب بالألوان التي نشهدها اليوم في خرائب مدننا وقرانا.

لقد آن الأوان فعلا لترسيم الحدود وإيقاف نزف الدماء!

[email protected]