يقال إنه من أهم العادات التي يمتاز بها الأغنياء، لكي يصلوا إلى ما وصلوا إليه من الثروة والنجاح، هي أنهم لا يشاهدون التلفاز، مفضلين عليه الكتاب كوسيلة من وسائل التفوق والنجاح، وليس كهواية من هوايات قتل الفراغ.. في المقابل فإن الفقراء هم الأكثر مشاهدة للأخبار والبرامج والدراما التلفزيونية، بل ان البعض منهم يجعل حياته تتمحور حول مشاهدة التلفاز، ويربط تحركاته بمواعيد برامج ومسلسلات معينة يفضلها على قراءة الكتب، التي هي من المتعلقات الكمالية بالنسبة له.

وفي عصر ميلان الحال، أصبح يمكن للجبال أن تستمال، والأقزام ان تستطال، بإعلام ملغوم يستطيع اختراق أي حصن متين من الميمنة أو الميسرة، بحيث يمكن لأي برنامج أن يكتريأي رياضي أو فنان لكي يطارح البرنامج خزعبلات وفكاهات أو سخافات .. كل شيء أصبح يياع ويشترى بالمال، حتى الفضائح، وحوارات النجوم، والتي أصبحت تشكل إعداماً لذائقة المتفرجين، وصداعاً متواصلاً لرؤوسهم.. ودعنا عن اسباب أخرى للصداع كإعلانات المنظفات والحفاظات وباقي أنواع القمامة، ولنتحدث عن آخر ما ابتلى به الفن المصري،وهو أغاني المهرجانات، التي يوحي اسمها بالرقي والجدية،وهي ليست سوى تجارة جديدة تندرج تحت بند المخدرات الرقمية، Digital Drugs، والتي تستخدم في مستشفيات الصحة النفسية تحت الإشراف الطبي، فبالإضافة إلى اشتغال مطربي (الجل والاجيال) مروجين لإزالة العرق و الشعر و الذوق السليم، أحاط بهم عشرات المشعوذين الذين حولوا الاغنية الشعبية المصرية الجميلة إلى هذيان بالمناكبيرقص على إيقاعه رجال ذكور عرايا يهزون بطونهم و(لا أجدع)راقصة من الأناث، وهي تجارة لا تختلف عن تجارة الشيخ فلان المغربي والشيخة فلانة المغربية.. لعلاج كل أنواع السحر والمس والأمراض المستعصية والمشاكل الأسرية وجلب الحبيب في ثلاث ساعات.. علينا الانتباه للعلاقة بين رد الطافش في ثلاث ساعات، و جلب داعش في ثلاث ساعات.. لأن كل فكرة متطرفة هي وليدة التناقض الرهيب الذي نعيشه بين إعلام بائس، وبين مشاهد يائس يتفرج على تلك البرامج السخيفة،ثم ينقلب إلى مجرم أو ارهابي أو مدمن.. علينا الانتباه لغيابفكر جديد يلائم عقول المساكين التي أصبحت بين فكي فلانةالشهيرة بكشف المستور، وتفسير الأحلام. إنها معادلة بطرفين.. الطرف الأول عالم من الفقراء يزداد قمعه والتنكيل به، والطرف الثاني عالم من الهشاشة لا يعتد به، وقنوات محترمة تتحكم بها إعلانات الأحلام ومساحيق الغسيل وسوائل الجلي... حيث تقوم النجمات من ذوات الملايين بترويج تلك البضائع بشكل (عادل) بين النساء الفقيرات... 

هذا الهذيان وصل مع الأسف، إلى كل ركن هادئ من أركان الفضاء.. وانطلق سهمه ليصيب كل مفاصل الفن والإعلام، وليس الأغنية الشعبية وحدها، حتى وصل هذا السهم إلى حصن منيع آخر تحول إلى ضرب من الضحك على الذقون، واسكيتشات من الجنون تسمي نفسها، ظلما ًوبهتاناً، بمسرح مصر، هذا الكيان الذي يقول العوافي لنفسه، ويرفع القبعة لنفسه، ويظن أن المسرح مكاناً يفتعل فيه الممثل الضحك على كلماته، وكماً من الهرج يستطيع معه كسر حاجز الوهم والقولللجمهور: لا تسألني من أنا؟

في واد كوادي الأرق والقلق هذا ينطلق الهيجان بكل اللغات واللهجات، والحكاية واحدة من الهبوط إلى الأسفل: إنها أخلاق مطربي الأعراس تزحف على بعض برامج الفضائيات،وخشبات المسرح، وإدارات الانتاج، فلم يعد الخوف من العملة الرديئة أن تطرد العملة الجيدة، ولكن الخوف أن الطريق خالية تماماً من الروائع، وممهدة تماماً لهذا النوع من الانتاج الرديء الذي يغني ويسمن جوع المطربين والمتعهدين والمنتجين ونهمهم لحالة التخمة، وليس الشبع.. صحيح أن الاشياء تشترى وتباع في الأسواق والبارات، وتفتح البيوت بالبقلاوة والفتات، ولكن أقانيم البضائع تختلف عن أقانيم الروائع، لأن الأخيرة حتى إذا ما أطلقها مكيال الجوع، فإنها تغتال نفسها على ميزان التخمة.

سألني أحدهم ومابها أغاني الأعراس؟ وأين الغلط في الأغاني الشعبية المصنوعة من وجدان الناس وأحاسيسهم.. وماذا يعني أن يطغى ذوق شعبولا والصغير على أشياء وأشياء.. قلت له أنا لا أتحدث يا عزيزي عن شعبولا، أنا لا أدين الصغير ومن لف لفه، وإنما أخاف على الجذع العملاق من الشعبلة، وأخشى على عمود خيمتنا العربية أن تحوله المعاول إلى دعدع صغير.