كان من المتوقع أن يكون محور هدا المقال حول فوز السيد "ترامب" في الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتي تمت مؤخرا، لكن اخترنا أن نغير وجهة البحث باتجاه تحليل الوضع المصري بدل من الانسياق لموجة التحليلات التي عمت وسائل الإعلام العربية والدولية حول تأثير "ترامب" على العالم العربي و الإسلامي وهدا الاختيار مرده لعاملين:
العامل الأول: معظم التحاليل و التوقعات سابقة لأوانها و لاتعبر حقيقة عن الواقع فالحملات الانتخابية والخطابات السياسية عادة ما تكون ساخنة بخلاف ممارسة الحكم الذي يفرض احترام مجموعة من التوازنات و في مقدمتها أن أمريكا في حاجة للعالم أكثر من حاجة العالم لأمريكا..
العامل الثاني: نستخلص من الانتخابات الأمريكية أن الشعوب عندما تريد باستطاعتها فعل ما تريد، فالشعب الأمريكي كدب أغلب التوقعات و التحاليل التي كانت متيقنة من فوز "هيلاري كلينتون"، و على الرغم من التحيز السافر لبعض وسائل الإعلام للسيدة كلينتون، إلا أن الشعب الأمريكي قال كلمته و اعتبر أن الظرف الاقتصادي و الاجتماعي في أمريكا مابعد الأزمة المالية، يقتضي رؤية كرؤية "ترامب"، و من المتعارف علية في الدراسات المقارنة أن حقب مابعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تفرز أنظمة تميل إلى التشدد و التطرف و نهج مبدأ الحمائية و الانغلاق على مستوى المبادلات التجارية مع الخارج.
وانسجاما مع ما قلناه سالفا بأن "الشعوب عندما تريد فإنها تفعل ماتريد"، سنحاول في هذا المقال التعرض للوضع المصري وذلك لسببين: أولهما حالة ترقب التي تعرفها مصر ومعها باقي بلدان الإقليم و غيرها من القوى الدولية، لما سيؤول إليه الوضع بعد يوم١١/١١، حيث تداولت وسائط الاتصال الاجتماعي هاشتاغ يدعو الشعب المصري للخروج إلي الميادين للإطاحة بحكم السيسي. وإلى ذلك الحين سننتظر بدورنا ما سيجري.و ثانيهما التأثير المحوري لمصر، و حاجة العالم العربي و الإسلامي لمصر القوية المتماسكة، و و لتدليل على هذه الأهمية يكفي استحضار دورها في ثلاث حقب تاريخية.
ففي العصور الوسطي كان الدور المصري بارزا في كسر الاجتياح التتاري الذي أسقط عاصمة الخلافة الإسلامية ببغداد وامتد إلى باقي الأقطار الإسلامية وأمام الاستسلام العام للمسلمين أمام التتار، كانت مصر القوة المدمرة للتتار في معركة "عين جالوت" بقيادة القائد المسلم قطز. كذلك كانت مصر القوة المؤثرة في طرد الصليبين من أرض الشام، بل و لعبت دور جد محوري في جلاء الاستعمار الأجنبي عن أراضي الإقليم العربي في العصر الحديث. و إلي جانب هذا الدور العسكري الفعال لمص، فإن قوتها الناعمة في العالم العربي و الإسلامي لها تأثير أكبر على وجدان أغلبية الشعوب العربية و الإسلامية، فلماذا انهار الدور المصري؟ و ماهي البدائل المتاحة لإخراج مصر من كبوتها؟
لاشك أن مسلسل انحدار مصر لم يبدأ مع حقبة "عبد الفتاح السيسي" بل جذوره أبعد من ذلك، فمسلسل الانحدار بدأ منذ ما يسمى بثورة يونيو وتحول مصر من الحكم المدني إلي الحكم العسكري. و بغض النظر عن الشعارات الحماسية التي تم الترويج لها طيلة الحقبة الناصرية، إلا أن الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الجيوسياسي للمصر بدأ في الانكماش و التبخر التدريجي. فجغرافيا تقلصت حدود مصر التي كانت تشمل السودان، وتم احتلال جزيرة سيناء من قبل الصهاينة في حرب ١٩٦٧ والتي تم استرجاعها فيما بعد لكن سيطرة الدولة عليها ظلت منقوصة.
أما اقتصاديا انخفض مستوى الدخل الفردي و تراجعت قيمة الجنيه المصري و انخفضت القدرة الشرائية للمواطن المصري و تراجعت الصادرات المصرية... أما اجتماعيا فالصورة واضحة أكثر و لاداعي للتوسع في الوضع الاجتماعي فمستويات الفقر و البطالة وسوء توزيع العائد الاقتصادي...كلها مؤشرات سلبية..
إن تردي الوضع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، و تراجع القوة الناعمة لمصر في محيطيها الإقليمي، كانت من بين أهم العوامل المفجرة لثورة يناير ٢٠١١ و التي أطاحت بنظام "حسني مبارك". وهذه العوامل المفجرة لم تنتفي بعد بل الوضع ازداد سوءا لا سيما بعد الإطاحة بالرئيس الدكتور مرسي... اليوم مصر في مفترق طرق خطير و شدة الانحدار نحو الهاوية تزدادا بوثيرة جد سريعة. فغياب الديموقراطية و الحرية التي تم الحجر عليها بعد ما سمي بثورة 30 يونيو -المشكوك في حجمها-،تمثل السبب الرئيسي في انحدار مصر و عدم استقرارها..
لا نخفي موقفنا السياسي من حكم الرئيس مرسي و الإخوان المسلمين، فهذه القوة السياسية المؤثرة في مصر ارتكبت أخطاء سياسية بمحاولتها الاستئتار بتدبير الشأن المصري اعتمادا على منطق الأغلبية التي حصلت عليه بعد الانتخابات التشريعية و الرئاسية التي تمت بعد ثورة 2011، فالبلاد بعد الإطاحة بمبارك خرجت من حقبة حوالي ٦ عقود من تكبيل الحرية و غياب التعددية السياسية بالمفهوم الحقيقي مع درجة فساد سياسي و اقتصادي و امني غير مسبوقة. لكن هذا الاستئتار لم يكن بسوء نية بقدر ما هو خطأ و عدم تمرس سياسي و ضعف في الاستعداد للحكم و تدبير المرحلة الانتقالية. لكن في المقابل خسرت مصر رئيساً يصعب تعويضه لاسيما تصوراته السياسية و التنموية و توجهاته الاستقلالية في بناء الاقتصاد المصري و تحصين الأمن القومي لمصر، فتوجه الرئيس مرسي نحو دعم الاكتفاء الذاتي من الحبوب، و توجه شرقا نحو توسيع خيارات نقل التكنولوجيا المدنية و العسكرية للداخل المصري يعد بحق قررا سياسي استراتيجي...
لكن شاءت إرادة العسكر و من وراءه القوى الأجنبية المناهضة لأي انبعاث حضاري لمصر أن تجهض تجربة تنموية سليمة من حيث المبدأ و القصد. فخسرت مصر من سقوط الديمقراطية و الانقلاب على الإرادة الشعبية و كانت الكلفة جد عالية..
نتمني أن تخرج مصر من كبوتها، لكن التمني لوحده لا يكفي فمصر اليوم في حاجة إلى خارطة طريق لتدبير مستقبل مصر، وسقوط نظام السيسي ليس إلا مسألة وقت. في الغالب سيتمكن من تجاوز احتجاجات ١١/١١ بحكم استعداداته الأمنية و تضييقه على حركة الشارع، لكن لن يستطيع الاستمرار طويلا فمساحات الدعم الشعبي و الفئوي له تتقلص بالتدريج و الوضع الاقتصادي و الاجتماعي ينهار بشكل متسارع، لكن الأهم من سقوط نظام السيسي هو كيف تدار مرحلة ما بعد السيسي...
فجماعة الإخوان المسلمين وهي القوة الوحيدة المنظمة و القادرة على الصمود في وجه السلطة، دفعت ثمنا غاليا بعد الانقلاب عليها، فأغلب قيادتها في سجون السيسي والبعض الأخر خارج البلاد. حجم الظلم الذي مُورِسَ على هذه الجماعة كان مبالغا فيه... والواقع أن هذه الجماعة لم تسئ يوما لمصر وشعبها بل كانت منذ تأسيسها قبل ٨ عقود صمام أمان لمصر و للأمة الإسلامية..وكانت داعم أساسي للفئات الاجتماعية المحرومة عبر مؤسساتها الخيرية...
إن مكافحة نفوذ الإخوان المسلمين في مصر و غيرها من البلدان العربية والإسلامية هو ضرب من العبث، فهذا التيار له جذور قوية في مجتمعات تدين بالإسلام و تؤمن أشد الإيمان برسالة الإسلام، فهذا التيار هو تجسيد لسيكولوجية الشعب المصري المتدين و باقي الشعوب العربية و الإسلامية...
فمصر طيلة القرن ٢٠ و ٢١ جربت كل من الناصرية و القومية و الاشتراكية و انتقلت من الحكم الملكي إلى الحكم العسكري، لكنها لم تجرب الحكم الديمقراطي المدني إلا سنة واحدة وكان ذلك في حكم الرئيس المدني محمد مرسي و بالرغم من صعوبة الوضع العام خلال هذه السنة استطاع هذا الرئيس أن يصبغ سياسات إستراتيجية و يرسي مبادئ للحكم غاية في الرقي، و من ذلك احترام حرية الإعلام و التعبير والاحتجاج...و لعلني بالغت في مدح حكم الرئيس مرسي لكن هذا ليس مدحا بقدر ماهو إعطاء الرجل حقه، فقد أثبت رجولته حاكما و أسيرا يعاني من الأسر و تم تشريد أهله و أنصاره، ومع ذلك لازال هو و جماعته حريصين على استقرار مصر و حقن دماء أهلها، فلو توفر ربع هذه القيم و المبادئ للمشير عبد الفتاح السيسي لكان وضع مصر مغايرا.
وفي ختام هذا المقال الذي لا أخفي فيه إعجابي بطموح سياسي نعتبره هو المدخل للتغيير الفعلي بمجموع الوطن العربي، فاستقلال القرار السياسي و الاقتصادي و التوجه نحو دعم التضامن العربي العربي و العربي الإسلامي...هو الوصفة السحرية لمواجهة كل تهديد داخلي و أجنبي بل تجنب تهديدا رئيس مثل "ترامب" ومن يدور في فلكه..
وحتى لا ننهي هذا المقال دون تقديم مبادرة لإدارة المرحلة القادمة و التي ستكون بدون شك مؤثرة في مستقبل مصر ومحيطها:
فالمرحلة الانتقالية صناعها ليس العسكر أو الإخوان و لكن صناعها شعب مصر، صحيح أن حضور الإخوان في الشارع حقيقة لا يطالها الشك، لكن علي قيادات الإخوان أن تغلب مصلحة مصر على مصلحتها و لقد برهنت الجماعة في محنتها هذه عن مدى صدقها و حرصها على مصر.. فلابد أن يرفع شعار مصر الديمقراطية و القوية باعتباره القاسم المشترك بين الجميع. كما أن أي حراك شعبي لابد له أن يستمر في الشارع و بشكل سلمي حتى يتم التوافق بين جميع الأطراف المعبرة عن صوت الشعب على إدارة مؤقتة توافقية تشمل جميع القوى، و الابتعاد عن منطق الأغلبية و الأقلية، و أن القرارات النهائية تخضع للاستفتاء، و ينبغي الإشراف على هذه الاستفتاءات هيئة مستقلة عن كل السلطات بما في دلك السلطة القضائية الذي أثبت في المرحلة السابقة عدم حيادها.
مبدئيا لا مندوحة عن دور الشارع و الميادين و هو دور سلمي دون شك، وفي المرحلة الانتقالية لابد من البدء بالقضايا الجامعة و الابتعاد قدر الإمكان عن القضايا الاختلافية، و ترحيلها لما بعد تحقق الاستقرار و من القضايا التي تحظى بقبول بين مختلف التيارات ؛
- العودة إلى الحكم المدني و الاحتكام لصناديق الاقتراع
- وقف نزيف التدهور الاقتصادي و الاجتماعي و الأمني..
ومن القضايا الخلافية، لكن لا مجال للتساهل معها نذكر:
- الدور السياسي للجيش فلا بد من إبعاد مؤسسة الجيش عن السياسة، و التوصل إلى توافق مع القيادات العسكرية التي لم تلوث يدها بدم المصريين لتقوم هي نفسها بعملية تطهير لهذه المؤسسة، و النموذج التركي قد يعين المصريين على إيجاد صيغة لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.
- ضمان محاكمة عادلة و نزيهة تتولها محاكم انتقالية من القضاة الذين اختاروا الحياد...لمحاكمة سافكي دماء المصريين و نهبي المال العام...
- الابتعاد عن العسكرة أو الأخونة في المرحلة القادمة، فقوة الإخوان تمكنهم من مقايضة باقي القوى بانسحاب الجيش من السياسة، مقابل عدم احتكار الإخوان للمشهد السياسي، و قبولهم بالمشاركة المحدودة و تغليب منطق التوافق على منطق الأغلبية، و لعل موقف حزب النهضة في تونس قد يفيد المصريين في صياغة مثل هذا التوافق...
و هذا بإيجاز برنامج مصر لما بعد السيسي.
التعليقات