القراءة المختلفة عن سائر القراءات الأخرى التي قرأها ماركس ويقرؤها الماركسيون الحقيقيون من بعده تنطلق أساساً من حقيقة أن التاريخ هو قصة حياة الإنسان على الأرض، والكلمة الأولى في هذه القصة هو نجاح الحيوان الشبيه بالإنسان في إنتاج حياته بنفسه . تلك كانت نقطة إفتراق الإنسان عن مملكة الحيوان، فغدا التعريف الدقيق للإنسان هو "الحيوان المنتج" وعليه كان تاريخ الإنسان هو تاريخ الإنتاج طالما أن الحيوانات الأخرى لا تنتج ولاتاريخ لها . وهكذا فالقراءة الصحيحة والدقيقة لتاريخ الإنسان تنحصر في قراءة تاريخ تطور الإنتاج . المعامل الوحيد لتطور الإنتاج هو قوى الإنتاج المتمثلة بالإنسان العامل في الإنتاج من جهة وبأدوات الإنتاج من جهة أخرى . تطور الإنسان النوعي من حيث القوى العقلية والبنية السيكولوجية يمكن إدراكه بصورة جلية، بينهما في الإنسان الأول وعنهما في الإنسان الحديث، بينما يصعب إدراك التغير في البنية البيولوجية وهو لا بد موجود حتى في الشكل، فشكل الإنسان الأول في العصر الحجري وما قبله ليس مثل شكله الحالي.

أما تطور قوى الإنتاج من حيث أدوات الإنتاج فذلك حدّي ونوعي لا يمكن تجاهله حتى أن المؤرخين لم يجدوا بدّاً من تقسيم التاريخ إلى عصور يتميز كل عصر عن غيره من العصور الأخرى بالمادة التي تصنع منها أدوات الإنتاج، فكان العصر الحجري والعصر الحديدي ثم النحاسي والبرونزي صولاً إلى العصر البخاري ثم الكهربائي وأخيراً الذري حيث تمايزت هذه العصور بالطاقة الرئيسية المستخدمة في الإنتاج وأدوات الإنتاج المناسبة لكل طاقة . وهكذا لم يعد محل نقاش أن تطور الجنس البشري مرتبط بتطور أدوات الإنتاج.

عاش الإنسان ملايين السنين في المشاعية الأولى يعتمد على الإلتقاط والإفتراس إلى أن بدأ يتناول من على الأرض العصا والحجر لمساعدته في الدفاع عن نفسه وفي جني غذائة . الفأس الحجرية والرمح الخشبي ساعدا على تكاثر الجنس البشري حتى أن هاتين الأداتين بعد تطويرهما لم تعودا كافيتين لسد حاجة البشر من الغذاء فكان لا بد من ايجاد وسيلة أخرى لتأمين المعاش فكان أن اكتشفت المرأة الأم زراعة البذور أمام الكهف لتأمين الحياة لأطفالها وقد امتد ذلك طيلة عصر الأمومة (Matriarchal Age) إلى ما بعد اكتشاف الحديد وصناعة الرفش والمعول فكان أن تحولت الزراعة من زراعة الأم أمام المنزل أو الكهف إلى زراعة البستنة (Horticulture) حيث الرجل يستخدم الرفش والمعول في عمل صعب . بقوى الإنتاج هذه، الرجل العبد والرفش والمعول، بدأت مرحلة العبودية التي امتدت لأكثر من 10 آلاف سنة حيث لم تتطور هذه القوى قيد أنملة فكان أن تهدمت روما العبودية على رأس أصحابها، الأسياد والعبيد كليهما. 

بعد انتهاء مرحلة العبودية مع انتهاء القرن الخامس الميلادي ظهرت الزراعة الحقلية (Agriculture) بواسطة المحراث الخشبي تجره الحيوانات . وبالطبع قوى الإنتاج في المحراث الخشبي تجره الحيوان هي أضعافها في العبيد والرفش والمعول ولذلك انتقلت البشرية إلى مرحلة الإقطاع، الإقطاعي المالك للأرض في مساحة قرية كبيرة وسكانها الذين يعتاشون باستزراع حصص منها يغدون أقناناً يقدمون الخدمات المطلوبة ومعظم المحاصيل للسيد الإقطاعي (Lord) . ما أمد بعمر الإقطاع لستة قرون من القرن التاسع وحتى القرن الخامس عشر ليس هو الاستلاب الديني كما قد يعتقد البعض حيث كان أول المعترضين على الإقطاع البابوي في القرنين الثالث عشر والرابع عشرهم القساوسة، الراهب روجر بيكون (Roger Bacon) وجون بول (John Bull) الذي قاد أكبر ثورة للفلاحين في بريطانيا 1381 تطالب بالمساواة بين بني البشر، وجون ويكلف (John Wycliffe)الذي استلهمة الرهبان الأقنان في الأسقفيات في عرض إنجلترا بثورة كبرى (Lollards) ضد الكنيسة البابوية في العام 1414، بل وزادوا على ويكلف بأن أعلنوا كفرهم بكل معتقدات الكنيسة . بأمر من بابا روما قام الملك هنري الرابع بقمع الثورة بوحشية فائقة ذهب ضحيتها آلاف الرهبان . عاملان كان لهما أثر في إطالة عمر عصر الإقطاع إلى أكثر من ستة قرون وهما إلتزام الإقطاعي بالمساهمة بحروب الملك وتجنيد قوى العمل لديه في الحرب، ثم فتك الطاعون (Black Death) الذي حصد عشرات الملايين في أوروبا وفي انجلترا بشكل خاص في أواسط القرن الرابع عشر . الحرب والطاعون يفتكان بقوى العمل ويحولان بالطبع دون تطورها .
في القرن الخامس عشر بدأ الأقنان يهربون من خدمة القنانة إلى مناطق محايدة بين الإقطاعيات المحيطة ليعملوا في صناعات يدوية أولية وهكذا قامت المدن البورجوازية المحاطة بأسوار (Boroughs) حيث يمارس البورجوازي قسطاً من الحرية في اختيار أدوات الإنتاج التي يعمل بوساطتها لتوفير معاشه . تنامت قوى الإنتاج في المدن البورجوازية فكان أن بدأت تؤسس لعلاقات إنتاج جديدة وساعد ذلك في ازدهار التجارة البحرية (Mercantilism) التي أسست بدورها للنظام الرأسمالي . 
في القرن السابع عشر والثامن عشر كانت قد بدأت تتلاشى علاقات الإنتاج الإقطاعية في بريطانيا وغرب أوروبا لتحل محلها علاقات إنتاج بورجوازية رأسمالية وطدتها وعمقتها الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر حيث كانت ثورة حقيقية في أدوات الإنتاج ورافقها بالطبع تناول نوعي للأدوات الجديدة إنعكس في بروليتاريا حاذقة وأكثر تطوراً .

كارل ماركس الشاب الذي كان قد توقف في الجامعة عند ديالكتيك هيجل المثالي وخرج ليعارضه بديالكتيك مادي، أدهشه النظام الرأسمالي الجديد بوفرة إنتاجه الذي لم تعهد البشرية بمثله من قبل حيث انظلقت قوى إنتاج نوعية في صعود متسارع لا يعيقه سوى الأزمات الدورية الناجمة عن وفرة الإنتاج للنظام الرأسمالي . لقد لاحظ ماركس بعبقريته الفذه أن النظام الرأسمالي نظام عالمي يتجاوز كل الحدود الدولية ولوفرة إنتاجه أيضاً، وأن قوى الإنتاج المتنامية فيه بقوة لا يمكن أن تحتويها علاقات إنتاج مهما كانت مرنة فما بالك بعلاقات الإنتاج الرأسمالية الجامدة غير المرنة . لذلك كتب بالإشتراك مع رفيقه الفكري فردريك إنجلز "المانيفيستو الشيوعي" 1848 قالا فيه أن قوى الإنتاج بجسمها البروليتاري ستحطم كل علاقات للإنتاج تحد من تناميها وستصل المجتمعات البشرية بعد الرأسمالية إلى مجتمعات شيوعية متحرر من كل علاقات للإنتاج حيث لن يعود هناك ضرورة للحق في الملكية وسيتم تحرير الإنسانية من قيود الإنتاج الصدئة القديمة . ونبه ماركس إلى أن أدوات الإنتاج نفسها ستلعب دوراً ربما يكون حاسماً في تحطيم علاقات الإنتاج الرأسمالية عندما يتنامى رأس المال الثابت على حساب رأس المال المتغير بفعل التطور التقني فيهبط معدل الربح مما يتسبب بانهيار النظام الرأسمالي – يسيء عامة الكتبة تفسير هذا القانون بتفسير معاكس يزعم بأن التقنيات الرفيعة أحيت النظام الرأسمالي من جديد!!
في العام 1864 رأى ماركس أنه طالما أن التطور التاريخي للمجتمع خص طبقة البروليتاريا دون غيرها بإنهاء التاريخ، تاريخ الصراع الطبقي، فسيكون من المفيد للطبقة العاملة وللإنسانية جمعاء أن تعي الطبقة العاملة دورها التاريخي وما يتوجب عليها القيام به . لذلك بادر ماركس إلى تشكيل إتحاد عمالي عالمي باسم (International Workmen Association) . من خلال أعمال هذا الإتحاد الذي كان أعضاؤه بصورة عامة من المهنيين وليسوا العمال البروليتاريا ومن الفوضويين، ومن خلال ما أبدته كومونة باريس (1871) من فقر في الوعي البروليتاري الثوري عاد ماركس ليحل الأممية الأولى في العام 1873 دون أن يعمل في السياسة خلال السنوات العشر التالية قبل أن يتوقف قلب هذا الرائد الأكثر جرأة والمتقدم على سائر رواد الإنساتية الآخرين، قبل أن يتوقف قلبه عن الخفقان مساء الرابع عشر من مارس آذار 1883 .
في السنوات الخمس التالية لاحظ فردريك إنجلز أن قوى الإشتراكية تنامت في أوروبا الغربية وتشكلت أحزاب اشتراكية ذات حضور في الشارع فرأى أن إحياء الأممية سيشكل نقلة نوعية على الطريق نحو الإشتراكية على أن تتشكل هذه الأممية من أحزاب وليس من أفراد كما كانت الأممية الأولى . في يوليو تموز 1889 إجتمع في باريس 25 موفداً من جميع البلدان الأوروبية تقريباً ومنها وفد من الولايات المتحدة وآخر من الأرجنتين لتأسيس الأممية الثانية . رحل إنجلز في العام 1895 وخلفه في قيادة الأممية كارل كاوتسكي (Karl Kautsky) مؤسس الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي برهن عبر تاريخه أنه الخائن الأكبر للبروليتاريا وثورتها الاشتراكية وانتهت الأممية إثر اشتراكها في الحرب عام 1916. في المؤتمر العام للأممية الثانية في بازل/سويسرا 1912 وجد البلاشفة الروس بقيادة لينين أن سياسات الأممية قد انحرفت عن النهج الماركسي وسمحت للإشتراكيين بالإشتراك في الحرب الاستعمارية فقرروا الخروج منها وألا يتنازلوا عن المبدأ الذي أفرته نفس الأممية الثانية في مؤتمرها العام في شتوتغارت/ألمانيا 1907 والقاضي في حالة الحرب الاستعمارية في أوروبا قيام الأحزاب الإشتراكية بالإستيلاء على السلطة في البلدان المتحاربة لاستعاد السلم الدولي . في تلك السنة قام ستالين ومولوتوف بإصدار جريدة الحزب "البرافدا" التي كان لها الأثر الحاسم في قوة الحزب وانتشاره الواسع .

في الحرب العالمية الأولى أُنهكت جميع الدول المتحاربة وخاصة روسيا وقد احتلت ألمانيا أكرانيا وبلاروسيا ولم يكن في حيلة القيصرية دفع العدو فقامت البورجوازية الروسية بثورتها في فبراير شباط 1917، وكانت أدوات الإنتاج البورجوازية الروسية منذ العام 1890 قد بدأت تلعب دورا في الاقتصاد الروسي وصلت نسبته إلى 20%، وأسقطت القيصرية وأعلنت روسيا الجمهورية ؛ غير أن قيادة الثورة البورجوازية المتمثلة بالحزب الاشتراكي الثوري برهنت على أنها أكثر عجزاً من أن تقوم بأي من مبادئ ثورتها الثلاث، وهي (1) انسحاب روسيا من الحرب، (2) الإصلاح الزراعي، (3) الدعوة لانتخاب جمعية تشريعية . راوغ الحزب لستة شهور لكن شروط الحرب لم تسمح بأكثر من ذلك خاصة وأن الحكومة البورجوازية المؤقتة زادت من اشتراكها في الحرب ؛ إذاك كان البلاشفة هم المنقذ الوحيد لروسيا فاستولوا على السلطة في 6/7 نوفمبر 1917 وكانت مهمتهم تقضي بتحقيق أهداف الثورة البورجوازية، ففي صبيحة 7 نوفمبر دعا لينين جميع الأحزاب في روسيا للإشتراك في السلطة ووقع كرئيس للحكومة مرسومين، مرسوم السلام القاضي بانسحاب روسيا من الحرب ومرسوم الأرض الذي أعلن أن جميع أراضي روسيا ملكية عامة توطئة لتوزيعها على الفلاحين الذين لا يملكون أية أراضي وفي ديسمبر التالي دعا لانتخاب جمعية تشريعية، وبذلك تكون جميع أهداف الثورة البورجوازية قد تم الإيفاء بها .
(يتبع)