قراءتنا المختلفة للتاريخ يحجبها تواجد ثلاث قراءات شائعة مؤدلجة أو رغبوية غير حقيقية لا تأخذ بواقع تطور قوى الإنتاج في العالم طيلة تاريخ القرن العشرين وحتى اليوم، والتي وحدها من يكتب التاريخ. قراءتنا المختلفة تتبع قوى الإنتاج بعين فاحصة لتكشف عن كل مفاعيلها في الحياة الإجتماعية والسياسية على الصعيدين المحلي والدولي. أما القراءات الثلاث الذاتية (Subjective) أو الرغبوية والمؤدلجة فهي التالية.
القراءة الأولى وهي قراءة نهاية التاريخ الرغبوية لفرانسس فوكوياما (Francis Fukuyama) وتقول أن التاريخ انتهى واستقر على اقتصاد السوق والديموقراطية الليبرالية. ويشرح البورجوازيون رؤية فوكوياما هذه بانتصار النظام الرأسمالي على النظام الاشتراكي رغم أن العكس هو الصحيح كما نبيّن فيما بعد.
القراءة الثانية وهي قراءة الشيوعيين المفلسين التي تقول فيما تقول أن ثورة أكتوبر كانت خطأ تاريخيا حيث وقعت في غير زمانها، وتشكيل الكومنتيرن كان بناءً على ذلك الخطأ، ويستدلون على ذلك بسقوط الاشتراكية السوفياتية دون أن يكلفوا أنفسهم بتعليل السقوط وإن إدعى معظمهم بغياب الديموقراطية التي يمسكون عن وصفها بالبورجوازية ويقول البعض المفلس بالبيروقراطية وكأن بيروقراطية الطبقة تحارب طبقتها لحساب طبقة معادية !! ولما كان هؤلاء "الشيوعيون" قد امتهنوا السياسة لذلك انقلبوا كيلا يُفتضح إفلاسهم إلى وطنيين (Nationalists) ينادون بالديموقراطية والعدالة الإجتماعي ؛ وتجرأ نفر من المفلسين وقد وجدوا أنفسهم قد ضيعوا العمر في متابعة حلم انتهى إلى وهم فنادى بكل وقاحة بمحاكمة لينين.
القراء الثالثة وهي قراءة البورجوازية الوضيعة التي تقول صحيح أن قوى الإنتاج هي التي تصنع التاريخ لكن قوى الإنتاج لم تعد كما كانت قبل ثورة المعرفة، لقد طرأ عليها تغير نوعي فأصبحت المعرفة هي العامل الحدي في القيمة (Value) وليس قوة العمل (Labour Power) كما كانت في عصر ماركس ؛ ولذلك فإن الاقتصاد السائد اليوم هو إقتصاد المعرفة (Knowledge Economy) وبموجب هذه القراءة فقد انتهى التاريخ إلى سيادة البورجوازية الوضيعة التي تنتج المعرفة على حد زعمها.
أما قراءتنا المختلفة عن هذه القراءات الذاتية أو الرغبوية والمؤدلجة الثلاث فهي قراءة ماركسية موضوعية تتبّع وقائع التاريخ كما هي وكما في سياقها التاريخي.
تبدأ قراءتنا للتاريخ الحديث من مفارقة تستحق الوقوف عندها بحصافة المؤرخ الموضوعي وهي تقول.. كان من نتائج الحرب العالمية الأولى قيام أول دولة عمالية في التاريخ وهي الإتحاد السوفياتي، كما كان من نتائج الحرب العالمية الثانية انهيار تلك الدولة العمالية رغم انتصارها الباهر في الحرب – الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الجيش الجبار الذي احتل برلين بتعداد 6.5 مليون جنديا عاد إلى موسكو بذات الجبروت العسكري بالرغم من مختلف التدابير التي اتخذها ستالين للحد من خُيَلائه ونفوذه في المجتمع وصلت إلى حد تعيين المارشال جوكوف، وهو من اقترنت جميع الانتصارات في المعارك الحربية باسمه، تعيينه بوظيفة إدارية بعيداً في الأورال. غير أن إغتيال ستالين بالسم من قبل قيادة الحزب الشيوعي، بيريا ومالنكوف وخروشتشوف، وهو الذي تمتع بنفود شعبي وسلطوي لا نظير له، سمح للعسكرتاريا السوفياتية أن تصادر قرار الحزب وتملي قراراتها على الحزب وعلى المجتمع وتقوم بثورة مضادة تلغي الاشتراكية المنافية للعمل المهني وتقسيم العمل والعمل العسكري هو أميزها ؛ وهكذا ما كان الجيش ليقوى على الحزب بعد اغتيال ستالين إلا بسبب الحرب.
ما لم يتوقف عنده المؤرخون ومراجعو تاريخ الإشتراكية السوفياتية وحتى الشيوعيون أنفسهم هو أن الإشتراكية العلمية التي قال بها ماركس ليست نظاماً اجتماعياً ثابتاً ومستقراً يقوم على علاقات إنتاج محددة معلومة بل هي فترة عبور قصيرة نسبياً يتم خلالها التحضير لمرحلة الشيوعية. في الإشتراكية التي لا تتحقق بغير دولة دكتاتورية البروليتاريا تشتغل خلالها البروليتاريا متطوعة بدون أجور تتحدد وفقاً لقيمة الإنتاج بل يتقاضى العمال بدل الأجور معاشات تحددها تكاليف الحياة ومستوى تطور الإنتاج في المجتمع، ولذلك كنا نرى زيادة معاشات العمال السوفيات آلياً لدى انتهاء كل خطة خمسية بنجاح. العمال السوفيات كانوا على ثقة تامة بأن الدولة السوفياتية هي دولتهم ولذلك كانوا يتطوعون بكل تفانٍ وإخلاص في أعمالهم ولذلك كان مستوى التنمية يصل في الغالب إلى 14% سنوياً ولا يقل عن 10% قبل أن يتم الانقلاب على الاشتراكية في العام 1953 ويقرر الحزب الشيوعي في سبتمبر إيلول من تلك السنة إلغاء الخطة الخمسية، التي كانت ستنقل الاتحاد السوفياتي إلى عتبة الشيوعية ومجتمع الرفاه، إلغاءها في مخالفة صريحة للقانون. منذ ذلك السقوط للتاريخ أو انحرافه والإعلان الصريح عن إسقاط دولة دكتاتورية البروليتاريا في العام 1961 لم يعد العمال يعملون تطوعاً كما كان الأمر في السابق وبدأ مجمل الإنتاج يتراجع ولم تفلح كل المعالجات في الإنقاذ، لا نجاح بريجينيف بتسويق الأسلحة السوفياتية الرخيصة في السبعينيات ولا ملاحقة الشرطة للعمال الهاربين من الشغل مع وصول رجل المخابرات يوري أندروبوف إلى رأس السلطة أو رفع الأسعار كمعالجة للهدر المفترض، ولا أخيراً إعادة البناء "البريسترويكا" لمخائيل غورباتشوف في النصف الثاني من الثمانينيات إلى أن أفلست المخابرات السوفياتية فكان العلاج الأخير وهو الكي الذي تمثل بجلب بوريس يلتسن إلى رأس السلطة ليعلن الإنقلاب إلى النظام الرأسمالي. المخابرات السوفياتية الرافضة بل الحاقدة على الاشتراكية طلبت بلسان رجلها الجديد يلتسن أن يستولي مدراء مؤسسات الانتاج على مؤسساتهم نهباً لتصنع منهم رأسماليين كما هيأت لهم حماقاتهم رغم أن البورجوازية الوضيعة التي منها العسكر والمخابرات هي أصلاً عدو تاريخي للنظام الرأسمالي، وفي حين أن آخر ما يصنع الرأسمالية هو رؤوس الأموال - كان بعض السادة في عصر العبودية يمتلك أموالاً أضعاف ما امتلك الذين أسسوا النظام الرأسمالي في انجلترا وغرب أوروبا ومع ذلك لم يكن أمام البشرية آنذاك سوى الإنتقال إلى النظام الإقطاعي.
كان إنتاج المصانع السوفياتية يتم توزيعة على جملة المصانع الأخرى التي تحتاجه دون أن يطرح في السوق إذ لم يكن هناك سوق أصلاً. الثروة التي تطوع ببنائها العمال السوفيات نهبها بضع مئات من المدراء الخونة وهربوا بها إلى الخارج فكان أن تحدث بعض المراقبين على أن حوالي 150 مليار دولاراً كانت تتحول إلى خارج الاتحاد السوفياتي سنوياً خلال ولاية يلتسن ما بين 1992 – 2000. وأخيراً لم ينتهِ مسار البورجوازية الوضيعة المعادي للإشتراكية بهبوط مستوى حياة ثلث الروس إلى ما دون خط الفقر وهبوط مجمل إنتاج روسيا إلى ما دون إنتاج إيطاليا التي تعداد شعبها هو أقل من نصف تعداد الروس. لن يتم إنقاذ روسيا بغير العودة إلى دكتاتورية البروليتاريا.
تفكك النظام الإشتراكي تم بفعل ذاتي قام به العسكر الروس وعصابة خروشتشوف المتعاونة معهم، بخلاف تفكك النظام الرأسمالي الذي تم تبعاً لشروط خارج إرادة الرأسماليين. في العام 1972 كانت جميع الدول المحيطية قد تحررت ونجحت في الاستقلال وفك روابطها مع مراكز الرأسمالية، دول المتروبول ؛ وبالطبع الدول المستقلة لم تعد تستقبل فائض الإنتاج المتحقق في المتروبول وهو ما رتب على مراكز الرأسمالية أن تقلع عن إنتاج البضائع الذي هو وحده تجارة الرأسماليين وبذلك تهدّم النظام الرأسمالي على رؤوس أصحابه ؛ وقد سارع في الإنهيار بسبب حماقة الإدارات الأميركية المتعاقبة بعد رحيل روزفلت صديق الشيوعيين في العام 1945. لقد وظفت تلك الإدارات الحمقاء كل مقدرات أميركا التي ورثت كل التقاليد الإمبريالية بعد الحرب وقد تفككت أكبر اميراطوريتين إمبرياليتين، فرنسا وبريطانيا، وظفتها في مقاومة الشيوعية التي كانت تتفكك ذاتياً بعد رحيل ستالين ولم تفعل مقاومة الإدارات الأميركية الحمقاء سوى إطالة عمر "الشيوعية" حتى العام 1991 وتقصير عمر الرأسمالية إلى العام 1970.
لدى انتخاب ريتشارد نيكسون رئيساً للولايات المتحدة وجد أن سلفة مثال الحماقة لندون جونسون كان قد أفرغ خزائن المال الأميركية في حربه على فيتنام فلم يجد نكسون بداً من الإنسحاب من معاهدة بريتون وودز (Bretton Woods) التي تقضي بتغظية 20% من الكتلة النقدية لأية دولة بالذهب وهي المعاهدة التي كانت الولايات المتحدة نفسها هي التي دعت إلى عقدها في العام 1944 وهي التي صاغت بنودها. كان الإنسحاب من أجل أن تطبع الولايات المتحدة حاجتها من الدولارات المكشوفة مما تسبب بتدهور هائل لأسعار صرف الدولار في عامي 72 و 73. مجرد إنكشاف الدولار الأميركي يعني مباشرة أن النظام الرأسمالي قد انهار والولايات المتحدة مثلت آخر قلاع النظام الرأسمالي. إنهيار النظام الرأسمالي قبل الانهيار التام للنظام الاشتراكي مثل عقدة لم يستطع تفكيكها حتى عتات الإقتصاديين الماركسيين رغم أن تفكيكها يتم بسهولة وفق ألفباء الماركسية.
في العام 1970 وهو العام الأخير من عمر النظام الرأسمالي كان مجمل إنتاج الولايات المتحدة 1600 مليار دولاراً وهو ما كان يساوي 40 مليار أونصة ذهب، حيث كان سعر أونصة الذهب أقل من 40 دولاراً ؛ وفي العام 2016 وصل مجمل انتاج الولايات المتحدة إلى 17 ترليون دولاراً وهو ما يساوي 12 مليار أونصه فقط، حيث وصل سعر أونصة الذهب إلى 1400 دولاراً الأمر الذي يعني في النهاية أن قوى العمل الأميركية في العام 1970 كانت تنتج 100 وحدة بضاعة وباتت في العام 2016 أي بعد زهاء نصف قرن تنتج 30 وحدة بضاعة فقط خليك عن مضاعفة عدد السكان ومضاعفة إنتاج الخدمات التي لا قيمة تبادلية لها - حيث إنتاج الولايات المتحدة المادي لم يتعدَ 3.4 ترليون دولارا. رغم تراجع مجمل الإنتاج في آخر قلاع الرأسمالية الولايات المتحدة بنسبة 70% ثمة اقوام من مختلف الملل والنحل بمن في ذلك فلول المفلسين من شيوعيي الأممية الثالثة يصرون على أن النظام الرأسمالي ما زال يعمل بل يبالغ البعض ويدعي أن النظام الرأسمالي ازداد توحشا، بينما يعلمنا ماركس أن الرأسمالية إنما هي الإتجار بقوى العمل عن طريق تحويلها إلى بضاعة وهو الأسلوب الوحيد الذي يمكّن الرأسمالي من إمتلاك قوى العمل كي يعود يبيعها في السوق بما يزيد على مقدار شرائها ليتحقق فائض القيمة الذي هو الهدف الوحيد لكل العملية الرأسمالية. وعليه كيف يمكن الزعم بأن النظام الرأسمالي ما زال يعمل بل إزداد توحشا في حين أن النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة وهي حصن الرأسمالية الحصين كان في العام 1970 ينتج من البضائع ما يزيد على ثلاثة أمثال ما انتجته الولايات المتحدة في العام 2016، بل هو في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير ناهيك عن أن عدد السكان تضاعف خلال هذه الفترة الطويلة؟
إلى هنا يقوم السؤال: ما هي خريطة العالم السياسية اليوم؟ ما هي مصائر العوالم الثلاث التي وثناها عن الحرب العالمية الثانية؟
البورجوازية الوضيعة السوفياتية قوضت النظام الاشتراكي في الخمسينيات دون أن يكون لديها نظام بديل بالطبع ولن يكون على الإطلاق. والرأسماليون في الغرب أوقفوا عجلة الإنتاج البضاعي فكفوا عن أن يكونوا رأسماليين فآل الحكم إلى البورجوازية الوضيعة وهي التي لا تملك وسيلة إنتاج تطعم الشعب، فهي لا تنتج غير الخدمات. والعالم الثالث الذي ثار إثر الحرب وفك روابطه مع مراكز الرأسمالية كي يبني اقتصاداً وطنياً لصالح شعوبه وجد نفسه فجأة في العام 1973 طفلاً يتيماً دون معيل فليس هناك معسكر اشتراكي يساعده في بناء اقتصادة وليس هناك دول رأسمالية استعمارية تعود إلى استعماره. وهكذا فإن خريطة العالم الإقتصادية تقول بكل جلاء أن العالم فيما بعد انهيار النظام الرأسمالي، وسبقه إلبدء بانهيار النظام الاشتراكي، قد غدا عالماً مسطحاً حق وصفه بالعولمي، وفقد كل أسباب الحياة. لكن لماذا لم يتوفَ حتى الساعة فذلك لأنه لم يستهلك بعد كل الثروات المختزنة قبل انهيار العوالم الثلاث. يستهلك الثروات المختزنة عن طريق الدولار المزيف حيث اتفقت الدول الرأسمالية الغنية الخمسة (G 5) على أن الدولار الأمريكي هو الدولار الذهبي حتى وإن كان من الذهب المزيف. العالم اليوم هو على السرير في حالة موت دماغي وما يبقي الحياة في جسده هو الدولار المزيف الذي وحده اليوم يقيم علاقات إنتاج هشة وكاذبة ويرسم الخريطة الجيوسياسية للعالم، كل العالم. مع انهيار الولايات المتحدة الوشيك وإعلان زيف دولاراتها سينهار العالم في كارثة كونية، وسيولد بعد الكارثة عالم جديد مختلف بتاريخ جديد مختلف. لا بدَّ وأن يكون عالماً إشتراكياً وبدون دكتاتورية البروليتاريا حيث تكون كل الطبقات المعادية للإشتراكية قد انقرضت.
التعليقات