منذ سقوط النظام السوري في كانون الأول (ديسمبر) 2024، وجد أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، نفسه في موقع غير مسبوق. فبعد أن كان يقود فرع تنظيم القاعدة في سوريا، أصبح فجأة الحاكم الفعلي للبلاد، متحملاً مسؤولية بناء دولة جديدة وسط تعقيدات محلية وإقليمية ودولية. غير أنَّ الجولاني، الذي تربى في أحضان الفكر الجهادي المتشدد، وجد نفسه اليوم بين مطرقة إرثه المتطرف وانتمائه الأيديولوجي إلى القاعدة وسندان الواقع الجديد في سوريا، التي تسعى إلى أن تصبح دولة تعددية مدنية ديمقراطية.
يحاول الجولاني تقديم نفسه كزعيم سياسي قادر على إدارة سوريا بعد سقوط النظام السابق، مدركًا أن العالم لن يقبل بدولة إسلامية متشددة في قلب الشرق الأوسط. لذا، بدأ الجولاني في تسويق صورة مختلفة عن نفسه، بعيدًا عن ماضيه الجهادي، محاولًا إقناع الداخل والخارج بأنه يسعى إلى بناء دولة مدنية تعددية تحترم الحقوق والقوانين، حيث من الملاحظ كثرة الزيارات المكوكية لوزير خارجيته المعيّن إلى العديد من الدول العربية والمنصات الدولية لتطمين المجتمعين العربي والدولي. لكن الجولاني، في الوقت ذاته، لا يستطيع الانفصال بسهولة عن جذوره الفكرية، ولا عن المحيط الجهادي الذي شكّل حاضنته السياسية والعسكرية لعقد كامل.
في الداخل، يواجه الجولاني تحديات ضخمة. فمن جهة، هناك قطاعات واسعة من الشعب السوري المنهك أصلًا تطالب بدولة مدنية ديمقراطية، ترفض القمع الديني وتحترم الحريات الفردية. ومن جهة أخرى، يعتمد الجولاني على تحالفات جهادية داخلية وقادة عسكريين متشددين يرون في أي انفتاح على الديمقراطية تهديدًا لمشروعهم الإسلامي. هذا التناقض الداخلي يجعل حكمه محفوفًا بالمخاطر، حيث يسير على حبل مشدود بين تحقيق الاستقرار الداخلي وبين الحفاظ على ولاء أنصاره المتشددين.
أما إقليميًا، فإن القوى المجاورة والدولية، التي تحمل ذكريات مؤلمة من تجارب الحكم الإسلامي المتشدد في أماكن مثل أفغانستان وإيران وتجربة الدولة الإسلامية في العراق والشام، لن تقبل بسهولة بنموذج حكم مماثل في سوريا. لذا، يسعى الجولاني إلى تقديم صورة معتدلة، محاولًا طمأنة الدول الكبرى بأنه ليس امتدادًا لتنظيم القاعدة، وإنما زعيم سياسي يسعى إلى تحقيق الاستقرار في سوريا الجديدة.
ورغم محاولاته الحثيثة لإظهار حكومته كسلطة مدنية تعددية، فإن الواقع على الأرض يروي قصة مختلفة. فالسياسات التي تنتهجها هيئة تحرير الشام تعكس توجهًا نحو تحويل سوريا إلى دولة دينية متشددة، ولكن بأسلوب ناعم يهدف إلى تجنب الصدام المباشر مع المجتمع الدولي.
ففي مجال التعليم، بدأت الجامعات والمدارس تتبنى أساليب وأدوات دينية مشددة مثل المحاضرات الشرعية في ساحات الكليات ومدن السكن الجامعية، التي تدعو إلى الطاعة الدينية وتروّج لمفاهيم الولاء للحاكم الشرعي المستند إلى الشريعة الإسلامية. كما تدعو تلك الحملات إلى اللباس الإسلامي الشرعي للنساء وفصل الذكور عن الإناث في الأماكن العامة، مع فرض رقابة مشددة على النشاطات الطلابية التي يُنظر إليها على أنها تتعارض مع القيم الإسلامية المتشددة.
إقرأ أيضاً: سوريا السابقة وسوريا الحالية: جمهورية الرعب
أما الإعلام، فقد تم توقيف كافة وسائل الإعلام الرسمية التابعة للدولة إلى إشعار آخر دون توضيح الأسباب الموجبة لذلك، وتم الاعتماد بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي لتسويق شكل دولة الجولاني، وذلك عبر جيش إلكتروني يقمع أي رأي أو فكرة تتناقض معه، وفي الوقت نفسه يدعو إلى أسلمة الدولة ومؤسساتها بشكل واضح وصريح وعلني.
وفي الفضاء العام، بدأت المدن السورية التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام تشهد تحولات اجتماعية تعكس التوجه الجديد. فقد تم تشديد قوانين اللباس العام، وفرضت قيود على الفعاليات الثقافية والفنية، وتم تخصيص مساحات عامة للدعوة الدينية، حيث تنتشر حلقات الوعظ والخطب الإسلامية في الساحات والشوارع، مما يخلق مناخًا عامًا يُشعر المواطنين بأن الدولة تحولت إلى كيان ديني، رغم ادعائها بأنها مدنية.
يواجه الجولاني أزمة متصاعدة بين ما يقوله للعالم وما يفعله في الداخل. فمن جهة، يسعى إلى تقديم نفسه كمصلح سياسي قادر على قيادة سوريا نحو مستقبل مستقر، ومن جهة أخرى، يرسّخ نظامًا إسلاميًا متشددًا في الداخل، مستندًا إلى أدوات القمع والترهيب الديني.
هذا التناقض يضع الجولاني في موقف صعب، حيث يجد نفسه محاصرًا بين المطرقة والسندان. فإذا حاول تقديم تنازلات حقيقية تجاه نموذج الدولة المدنية، فإنه سيواجه تمردًا داخليًا من المتشددين داخل تنظيمه، الذين يرون في ذلك خيانة للمشروع الجهادي. وإذا استمر في تطبيق رؤيته الإسلامية المتشددة، فإنه سيواجه عزلة دولية وربما تدخلًا خارجيًا لمنع تحول سوريا إلى دولة دينية متطرفة.
حتى الآن، يبدو أن الجولاني يحاول إيجاد حل وسط، عبر تقديم صورة مزدوجة لسوريا: دولة مدنية في العلن، ولكنها تحافظ على طابعها الإسلامي المتشدد في الخفاء. لكن هذا النهج قد لا يكون مستدامًا على المدى الطويل، حيث سيؤدي في النهاية إلى صدامات داخلية وخارجية تهدد استقرار حكمه.
التعليقات