لطالما عانت سوريا من أنظمة قمعية جعلت من الترهيب والعنف أدواتها الأساسية في الحكم. منذ حكم عائلة الأسد وحتى سقوط النظام في كانون الأول (ديسمبر) 2024، عاشت البلاد في ظل الاستبداد الأمني والدكتاتورية العسكرية. إلا أن سقوط النظام لم يكن إيذانًا بالحرية، بل أدى إلى ظهور نظام جديد لا يختلف عنه كثيراً، بقيادة أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، الذي نصب نفسه رئيسًا لسوريا، مستغلًا الفوضى السياسية والعسكرية لفرض رؤيته الخاصة للحكم.
لأكثر من خمسة عقود، كانت سوريا دولة بوليسية بامتياز، حيث شكلت الأجهزة الأمنية حجر الأساس في بقاء نظام الأسد الأب ثم الابن. اعتمد النظام على ركائز أمنية لضمان استمراره مثل القمع الدموي، السيطرة الأمنية المطلقة، والتحكم في الإعلام والمجتمع. منذ وصول حافظ الأسد إلى الحكم عام 1970، استخدم القوة المفرطة لسحق أي محاولة للمعارضة، وكان من أبرز محطات القمع مجزرة حماة عام 1982 التي قُتل فيها عشرات الآلاف، ليس فقط للقضاء على التمرد، بل لترهيب كل من يفكر في مقاومة النظام.
لم يتغير هذا النهج مع وصول بشار الأسد إلى السلطة، إذ واصل استخدام العنف المفرط، بدءًا من قمع انتفاضة قامشلو عام 2004، وصولًا إلى الثورة السورية عام 2011، التي واجهها النظام بالقصف والتدمير الممنهج، واستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين. تحولت البلاد إلى شبكة من السجون والمعتقلات السرية، حيث مارست الأجهزة الأمنية التعذيب الممنهج ضد المعارضين السياسيين، والصحفيين، والناشطين. كان سجن صيدنايا مثالًا صارخًا على وحشية النظام، حيث قتل آلاف السجناء تحت التعذيب أو بالإعدامات الجماعية.
مع سقوط النظام، ظن السوريون أن حقبة القمع قد انتهت، لكن الجولاني جاء ليعيد إنتاج حكم الرجل الواحد بأساليب جديدة، مستغلًا شعارات دينية لتحقيق طموحاته السلطوية. بدلًا من بناء دولة ديمقراطية، فرض حتى الآن نظامًا أحادياً لا يختلف عن نظام الأسد في جوهره، إذ لجأ إلى نفس الأدوات: القمع، الاعتقالات التعسفية، الاغتيالات، وانتهاك الحريات.
لم يصل الجولاني إلى الحكم عبر انتخابات أو تفويض شعبي، بل من خلال القوة العسكرية، في سيناريو شبيه بالانقلاب، حيث سقط النظام السوري في غضون أيام، رغم أنه صمد لسنوات طويلة في وجه الفصائل المعارضة مستخدماً كل أنواع الأسلحة الممكنة وحتى المحرمة دولياً. من الواضح أن سقوط الأسد جاء نتيجة تفاهمات إقليمية ودولية، ما مهد الطريق للجولاني ليملأ الفراغ السياسي والأمني. عقب سيطرته، عقد مؤتمرًا شكليًا أسماه "مؤتمر النصر"، ليكرس حكمه، مستنسخًا بذلك تجربة الأسد في تنصيبه رئيسًا عبر مجلس الشعب الصوري بتغيير الدستور في دقائق.
لترسيخ سلطته، لجأ الجولاني حتى الآن إلى أساليب الترهيب والانتقام، حيث أُطلقت يد أجهزته الأمنية في تنفيذ اعتقالات وتصفيات ضد موالين للنظام السابق. تميزت هذه الفترة بنشر فيديوهات توثق عمليات الإعدام والتعذيب والتنكيل، في رسالة واضحة مفادها أن أي معارضة لحكمه ستواجه مصيرًا مشابهًا. أضف إلى ذلك ممارسات جبهة النصرة خلال العقد الأخير والتي تمثلت في العديد من الانتهاكات جنباً إلى جنب مع انتهاكات النظام، والتي وصلت إلى وضعها على قائمة الإرهاب الدولية من هول الانتهاكات والرعب المستخدم ضد المدنيين.
الأخطر من ذلك، أن القانون أصبح شبه غائب، إذ لم يعد القضاء يعتمد على معايير العدالة، بل صار خاضعًا لأحكام عرفية يحددها غالبًا رجال الدين الذين يتبعون الجولاني، ومنهم شادي الويسي، الذي عُين وزيرًا للعدل، وهو نفسه الذي أشرف سابقًا على عمليات إعدام في الشوارع بإدلب، معتمدين على محاكمات شرعية.
ما يحدث في سوريا اليوم يثبت أنَّ الأنظمة الإسلامية المتشددة عندما تصل إلى السلطة لا تكون بالضرورة أكثر عدالة، بل قد تتحول إلى أنظمة قمعية أكثر استبدادًا من الديكتاتوريات التقليدية. رغم شعاراتها عن تطبيق العدالة، فإن الواقع يظهر أنها تستخدم الدين كأداة لتبرير السلطة وقمع المعارضين كأداة رعب جديدة.
التجارب التاريخية أثبتت ذلك، سواء في إيران تحت حكم ولاية الفقيه، أو أفغانستان في عهد طالبان، أو مصر خلال حكم الإخوان المسلمين، حيث تحولت هذه الدول إلى أنظمة قمعية تستغل الدين لتحقيق مكاسب سياسية.






















التعليقات