شهد العالم خلال السنوات الأخيرة تطوراتٍ متسارعة وتحوّلاتٍ دراماتيكية في عوالمه وفضاءاته الرقمية، حيث أصبحت أدوات التقنية عمومًا، ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصًا، جزءًا جوهريًا من وجود الإنسان، وحجر الزاوية في تعاملاته اليومية على مختلف الصعد والجوانب التي تتشكل منها حياته.

فالمنصّات الرقمية لم تعد مجرد وسيلة للتواصل بين الأفراد، كما كانت الغاية منها لحظة تأسيسها، بل أصبحت انعكاسًا مباشرًا وتجسيدًا حقيقيًا للأفكار السياسية السائدة، وأنماط الاستهلاك الاقتصادي، والأنساق الثقافية، والتوجهات المجتمعية، والسلوكيات الشخصية في غالبية دول العالم التي تستخدم هذه التقنيات.

وفي هذا السياق، لا يمكن استثناء العراق من خريطة التغييرات الحاصلة فيما يتعلق بمشهده الرقمي، الذي يعصف به إعصار تحوّلاتٍ غير مسبوقة، وتغييراتٍ لا يمكن تجاهل نتائجها أو مسار تطورها لدى مختلف الفئات العمرية فيه.

ووفقًا لأحدث التقارير الصادرة عن مركز الإعلام الرقمي (DMC)، فقد بلغ عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في العراق 34.3 مليون مستخدم في عام 2025، أي ما يعادل 73.8 بالمئة من إجمالي عدد السكان، وهو ما يعكس نموًا مستمرًا وتقدمًا متسارعًا في استخدام المنصّات والاعتماد على التطبيقات الرقمية كوسيلةٍ للترفيه والاتصال والتواصل، وأداة فعّالة للتعبير عن الآراء وطرح الأفكار وبناء وتنظيم العلاقات الاجتماعية والمهنية ومتابعة الأخبار، وخلق نمطٍ جديد من المعاملات التجارية.

إنّ النتائج التي أسفر عنها تقرير المركز تقتضي تحليلها بصورةٍ عميقة، وتستوجب تفكيك أبرز محاورها، وتستدعي الوقوف على دلالات هذه الأرقام لمعرفة آثارها المترتبة على مساحات السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، من أجل التعامل معها على نحوٍ صحيحٍ وواقعيٍ ومدروس.

وفي نظرةٍ أولية، نكتشف أنّ أبرز ما يميّز هذا التقرير لا يتعلق بنمو وزيادة أعداد المستخدمين، فما جرى حدثٌ متوقع في ظل التوجه العالمي نحو الرقمنة، بل إنّ أهمّ ما فيه يتعلق بالتغييرات الحاصلة في أنماط استخدام المنصّات الرقمية المختلفة واهتمام المستخدمين بها واعتمادهم عليها في حياتهم.

فقد شهدت بعض المنصّات، مثل تيك توك وإنستغرام وسناب شات، ارتفاعًا بدرجاتٍ مختلفة في عدد المستخدمين، بينما تراجعت منصّاتٌ أخرى مثل يوتيوب وفيسبوك ماسنجر، ما يعكس تحوّلاً في تفضيلات واهتمامات المستخدمين، وتغييرًا في أساليب التفاعل مع المحتوى، بالإضافة إلى بروز منصة "لينكدإن" التي حققت نموًا ملحوظًا في عدد مستخدميها، وهو ما يدلّ على تصاعد الاهتمام بالتواصل المهني والتوظيف عبر الفضاء الافتراضي.

ومن وجهة نظري، بصفتي مختصًا في هذا المجال، هناك أربعة مظاهر يمكن استخلاصها من هذا التقرير، نتوصل إليها من خلال تحليل مضامينه واستكشاف أبعاده، وإدراك مدى تأثيره في مختلف الاتجاهات الفكرية التي يعكسها على الواقع، وهي على النحو الآتي:

أولًا: نمو تيك توك وهيمنة المحتوى القصير
من أبرز الظواهر الرقمية في العراق الصعود الكبير لمنصة تيك توك، حيث أضافت الأخيرة 2.35 مليون مستخدم جديد خلال عامٍ واحد، ليصل العدد الإجمالي لمستخدميها إلى 34.3 مليون. ويمكن استشفاف قدرة المنصة على جذب الجمهور من خلال سهولة الاستخدام ومحتواها التفاعلي ومقاطعها القصيرة، التي تثير انتباه المستخدمين سريعًا وتلائم مزاج الجيل الجديد. كما أنّ المؤثرين يولون اهتمامًا كبيرًا بهذه المنصة، ما جعل تيك توك بيئةً مزدهرة لهم ولصنّاع المحتوى الذين يحظون بمتابعةٍ واسعة من قِبل ملايين المستخدمين. ينطبق هذا الأمر أيضًا على منصّتي إنستغرام وسناب شات، لكن دون أن يصل إلى مستوى الزيادة الذي تشهده منصة تيك توك.

ثانيًا: تراجع يوتيوب واتجاهات مشاهدة الفيديو الطويل
شهدت منصة يوتيوب انخفاضًا في أعداد مستخدميها، حيث تراجع العدد من 22.8 مليون في عام 2024 إلى 22.3 مليون في عام 2025، وهو التغيير الذي جاء بالتزامن مع صعود تيك توك، ما يشير إلى احتمالية انتقال الجمهور نحو منصّات الفيديوهات القصيرة وتحقيق الأرباح المادية بشكلٍ أسرع، كما تقدّمه منصة تيك توك. ورغم هذا التراجع، لا تزال يوتيوب تتمتع بجمهورٍ متحمّس يتابع محتواها في مجالاتٍ عدة، مثل التعليم والترفيه والرياضة واللياقة البدنية والجمال والموضة والتنمية البشرية والبرمجة والموسيقى والفنون والسياحة والسفر والعلوم والتجارب وغيرها.

ثالثًا: ازدهار لينكدإن والاهتمام بالتواصل المهني
أعتقد أنني كنت من أوائل من كتب عن منصة لينكدإن في العراق، حيث أشرتُ في مقالٍ بعنوان "لينكدإن، الموقع الحقيقي الذي يحتاجه العراقي" (21 حزيران (يونيو) 2018) إلى أهمية اهتمام الشباب العراقي بهذه المنصّة لما توفره من مادةٍ علمية وتعليمية، فضلًا عن فرص عملٍ واعدة.
ومن الأمور اللافتة والإيجابية في تقرير مركز الإعلام الرقمي وجود توجهٍ واهتمام عراقي واضح بهذه المنصة خلال الأعوام الماضية؛ إذ ارتفع عدد مستخدميها إلى 2.3 مليون مستخدم، بزيادة تقدّر بنحو 400 ألف شخص عن العام الماضي. ويعود هذا التوجه إلى وعيٍ متزايد بأهمية المنصّة، لا سيما ما يتعلق منها بالفرص العملية للتوظيف، ما جعل لينكدإن المنصة الرئيسة للبحث عن وظائف. كذلك بدأت العديد من الشركات والمؤسسات وروّاد الأعمال في الاعتماد عليها كأداةٍ رئيسة للتوظيف والتواصل مع المحترفين، ما أدى إلى تنامي ريادة الأعمال وتوسيع شبكات الأعمال وبناء علاقات مهنية تصبّ في هذا الجانب.

رابعًا: التوجّه نحو تطبيقات التراسل بدلًا من فيسبوك ماسنجر
يشير انخفاض عدد مستخدمي فيسبوك ماسنجر إلى 15 مليون (خسارة 700 ألف مستخدم عن العام الماضي) إلى توجّه المستخدمين نحو تطبيقات التراسل الفوري، مثل واتساب وتيليغرام وسيغنال وغيرها، واعتمادهم عليها في التواصل والاتصال وحتى إدارة الأعمال، لما توفره هذه التطبيقات من مزايا يعتبرها المستخدم أفضل من تطبيق فيسبوك ماسنجر.

إنَّ هذه التغيرات التي شخصتُها أعلاه تطرح، بلا شك، عدة أسئلة جوهرية حول طبيعة المشهد الرقمي في العراق وخريطته ومساره واتجاهاته المستقبلية والمنصات التي تتحكّم به وعلاقته بالمستخدمين، وتأثير ذلك على مختلف القطاعات، بدءًا من التفاعل في الدوائر السياسية وتعقيداتها، مرورًا بالإعلام والتسويق والتجارة، ووصولًا إلى السلوكيات الاجتماعية والشخصية.

أرى أن المستقبل القريب سيشهد استمرار صعود المنصات التي تركّز على الفيديوهات القصيرة، مثل تيك توك، كما تسعى بقية المنصّات نحو التركيز أكثر على هذا النمط من المقاطع. ومن المتوقع أيضًا استمرار صعود لينكدإن وتطويره بما يناسب تزايد الاهتمام بالتحوّل الرقمي في العراق وأثر ذلك على التعاملات اليومية. كما أتوقّع توجهات حكومية أكثر رصانة نحو إصدار لوائح وتشريعات تسعى، من خلال موادها، لتنظيم هذا الفضاء الرقمي ومعالجة التحديات التي تواجهه، والثغرات التي تنفذ من خلالها، لإعادة تشكيل المشهد الرقمي في العراق بصورةٍ متّسقة مع فضاءات العالم الافتراضيَّة.