كان من حظ البشرية الكبير أن ينتقل كارل ماركس من دراسة القانون في الجامعة في مدينة بون الألمانية إلى دراسة الفلسفة في جامعة برلين التي كان فيها استاذ الفلسفة الكبير جورج هيجل وكانت تتصارع هناك الفلسفة المثالية لهيجل من جهة والفلسفة المادية لفيورباخ من جهة أخرى . عبقرية كارل ماركس المعروفة مكنته من إكتشاف أهم مكتشفات الإنسان في الأرض وهو علم (فلسفة) المادية الديالكتيكية . لقد رفض ماركس كل ما يسمى بعلوم الفلسفة التي تبحث في الحقيقة المطلقة ولا تجدها حيث وجدها ماركس فقبر كل الفلسفات ليحل محلها علم (فلسفة) المادية الديالكتيكية التي تقول أن كل ما في الطبيعة إنما هو تهيؤات مؤقتة ناجمة عن قانون عام للحركة في الطبيعة حتى ليمكن القول أن الشيء ليس هو نفسه في نفس اللحظة . ويتجسد هذا القانون في ثلاث مواد : وحدة التناقضات والتغيرات الكمية التي تؤول إلى تغيرات نوعية من خلال قانون نفي النفي . علم المادية الديالكتيكية كشف لنا حقيقة علم التاريخ سواء كان تاريخ الطبيعة أم تاريخ المجتمعات البشرية التي هي مجرد تهيؤات تاريخانية لمسار الحركة في الطبيعة . لم يعد التاريخ مجرد سرد قصص لأحداث منعزلة في حياة المجتمعات بل غدا علماً يدرس ليس طبيعة الأحداث فقط بل وأسباب وجودها وما تؤول إليه . وعليه كان هناك المادية التاريخية التي تقول أن أسباب كيان مرحلة تاريخية معينة هي تطور المرحلة السابقة لها بقواها الخاصة بها .
ما أعادني إلى قراءة ماركس للتاريخ بل علم التاريخ هو أنني قبل أيام كتبت في إيلاف "قراءة مختلفة للتاريخ" فاعترضني أحدهم يقول ..
"ما زال الاستاذ النمري مفتونا بالشيوعية رغم سقوطها المدوي,الحقائق لا يمكن انكارها:الاقتصاد الغربي يسيطر على العالم,الصين هجرت الاشتراكية واتجهت للسوق فنجحت وما تزال,المجتمعات الغربية تعيش في بحبوحة وحرية تامة,والاخرون ما زالوا ينظرون(بتشديد الظاء وكسرها)من هم اتباع الشيوعية والاشتراكية اليوم وما وزنهم في العالم؟؟العالم كله تغير يا سيد وانتم ما زلتم:مكانك قف !!!" .
أما أنني مفتون بالشيوعية كما وصفني هذا المعترض فهذا صحيح، لكن ليس لأية أسباب أخرى قد يتوهمها بل لأن الشيوعية، الشيوعية فقط، هي التي ستطهر الإنسان، إنسان ما قبل الشيوعية، من مختلف المسوخ التي مسخه بها الصراع الطبقي وهي يا للهول !! مرعبة ومرعبة جداً لدرجة أن هذا المعترض يبدي إعجابه بما وصل إليه عالم اليوم بكل مسوخه من حروب دينية وإثنية وإرهاب ونخاسة ومخدرات وتبييض أموال ومجاعات عامة وفقر مملق وانزياحات ديموغرافية ؛ لم يمسخ العالم عبر تاريخه الطويل مثلما هو ممسوخ اليوم وما ذلك كله إلا بسبب هروبه من الإشتراكية بقيادة البورجوازية الوضيعة اللاتاريخية وتغولها في امتصاص آخر قطرة من دماء الطبقة العاملة .
كما يتهمني هذا المعترض، وقد وقع باسم "متابع"، بالجمود العقائدي بقوله .. "وأنتم ما زلتم:مكانك قف!!!" . غريب أمر هذا "المتابع" الذي لم يتابع حيث في نهاية مقالتي أكدت أن النظام العالمي القائم اليوم سينهار قريبا حال انهيار الدولار الأمريكي المزيف وليس أدل على زيفه من أن الإحتياطي الصيني من الدولارات والبالغ خمسة ترليونات غير قابل للحركة أو الاستبدال إلا باعادة جزء منه إلى موطنه الأصلي، أميركا، ليعمل بالربا وإلا فإن صرف ترليون واحد في السوق الدولية سيؤدي حتماً إلى انهيار الدولار ومعه تنهار الولايات المتحدة والصين معاً وينهار العالم في كارثة كونية لا تنتهي إلا بتولي فلول البروليتاريا على كل السلطة بدون منازع وبدون النزوع الدكتاتوري حيث لن يعود هناك أية حقوق لأي طرف في المجتمع للمصادرة . ورغم ذلك يصفني هذا "المتابع" الذي لا يتابع بالجمود العقائدي بقوله "مكانك قف" وهو من وقف عند عالم اليوم المسخ ليصفه بعالم الغنى والرفاه !!
عالم اليوم أيها السيد "المتابع" الذي لا يتابع يقوم أساساً على استغلال مئات الملايين من العمال الصينيين من قبل عصابة خروشتشوف الصين (دنغ هيساو بنغ) في قيادة ما يسمى "الحزب الشيوعي" الهاربين من الاشتراكية الذين يصادرون من إنتاج العامل الصيني 1800 دولار شهرياً ويعطونه 200 فقط !! لئن كان الرأسمالي يصادر من العامل 25% من إنتاجه كفائض قيمة في أسوأ الأحوال فالحزب اللاشيوعي الصيني يصادر من إنتاج العامل 90% ولا يبقون له أكثر من 10% من إنتاجه - سقى الله أيام الرأسمالية !! – وهوما ينفي نفياً قاطعاً بأن الصين تتحول إلى الرأسمالية حيث مصادرة 90% من إنتاج العامل الصيني ليس هو فضل القيمة كما في النظام الرأسمالي بل هو القيمة بذاتها والفضل هو راتب العامل الشهري الذي لا يساوي أكثر من 10% من قيمة إنتاجه وهذا أمر يحول نهائياً دون قيام النظام الرأسمالي، فالرأسمالي يراكم فائض القيمة من أجل التمدد الرأسمالي (Expansion) كما وصفه ماركس أما مراكمة الحزب اللاشيوعي الصيني للقيمة وليس فضل القيمة فلن تحصل هذه العصابة على غير الخيبة وركام نقود لا تصرف . وعليه فإن الرفاه الذي يعتد به أخونا "المتابع" في الدول الرأسمالية سابقاً إنما هو من إنتاج مئات الملايين من العمال الصينيين مقابل ترليونات الدولارات غير القابلة للصرف . عمال الصين لن يمكثوا طويلاً قبل إكتشاف مؤامرة ( نيكسون – هيساوبنغ) مؤامرة الهروب القذرة من الاشتراكية ضد العمال .
قد يرتكز النظام الإجتماعي ويستقر على استغلال طبقي، كأن تستغل الطبقة البورجوازية طبقة العمال، لكن أن يرتكز ويستقر على الغش حيث من أجل الهروب من النظام الإشتراكي تصادر البورجوازية الوضيعة في قيادة الحزب اللاشيوعي الصيني معظم إنتاج العمال لتبادلة بدولارات غير قابلة للصرف فذلك لن يجلب أدنى استقرار . قيادة الحزب اللاشيوعي الصيني لا تخدع عمال الصين فقط بل تخدع العالم، كل العالم ليرى للدولار قيمة كونها تبادلة بالبضائع الصينية دون أن تعترف بأنها تحتفظ بخمسة ترليونات من الدولارات لأنها غير قابلة للصرف .
كنت استهليت مقالتي السابقة بالإشارة إلى قراءات التاريخ المؤدلجة والرغبوية وهي القراءات الشائعة التي تغطي على القراءة الموضوعية للتاريخ، قراءة الوقائع في سياقها . قراءة المعترض "المتابع" تقول ما كان قد قاله فرانسس فوكوياما – وتراجع عنه فيما بعد – وهو أن عالم اليوم في أجمل صوره، وشعوبه في بلهنية رخية ومن ينكر ذلك مثلي فهو في جمود عقائدي بفعل الأدلجة ومنهم المفتونون بالشيوعية مثل حضرتي . أنا المفتون فعلاً بالشيوعية بعيداً عن الأدلجة التي تعاكس الماركسية والشيوعية حيث أرى العالم على عكس ما يراه "المتابع" ، أراه مزعزعا على وشك الإنهيار في كارثة كونية وكان قد ذرّ قرنها في العام 2008 .
"المتابع" المعترض لم يتابع أهم وقائع العصر فهو لا يعلم أن العالم الرأسمالي سابقا مدين اليوم بأكثر من 60 ترليون دولارا وباقي العالم كله مدين ب 15 ترليون فقط . أي أن كل فرد في العالم الرأسمالي سابقا، في الدول التي يراها "المتابع" في بلهنية العيش مدين بحوالي 60 ألف دولار، أي أن أسرة تتكون من أربعة أفراد يصل مجموع ديونها إلى 240 ألف دولار وعلى معيل الأسرة أن يدفع سنويا حوالي 10 آلاف ددولار فوائدها . ولما لا يستطيع معيل الأسرة أن يدفع مثل هذه الفوائد الضخمة تنوب الحكومة عنه وتستدين لتسدد جميع الفوائد عن الدين العام وهو ما يزيد على 700 مليار سنوياً تضاف إلى مجمل الدين الخارجي ففي كل ثلاث سنوات يزيد دين الولايات المتحدة الخارجي 2 ترليون دولار . أمام هذه الحقيقة الصارخة يترتب على المعترض "المتابع" أن يقدم حلاً لهذا المأزق الأميركي الذي استعصى حله على مختلف الإدارات الأمريكية ويهدد حياة الأميركيين . وعندما أشار الرئيس باراك أوباما إلى أن الحل الوحيد لمأزق الولايات المتحدة هو العودة إلى الإنتاج البضاعي لم يصغِ إليه أحد ولا يستطيع أن يصغي إليه أحد حيث إنتقل أكثر من 60% من طبقة البروليتاريا التي وحدها ينتج البضاعة إلى طبقة البورجوازية الوضيعة التي تنتج الخدمات وتبيع "المعرفة" لحسابها على البرليتاريا بقيَم تعسفية خارج السوق . لقد أدرك أوباما أن الخدمات لها كلفة إنتاج لكن ليس لها قيمة تبادلية ولذلك فالزعم بأن مجمل الإنتاج القومي للولايات المتحدة يصل إلى 17 ترليون دولار هو غير صحيح حيث أن 80% من هذا المبلع هو كلفة إنتاج خدمات وليس القيمة التبادلية للخدمات ؛ فقيمة إنتاج أميركا البضاعي هو أقل من أربعة ترليونات وهو فقط الإنتاج ذو القيمة التبادلية . ومن هنا بات دولار 2016 يساوي فقط 3.5 سنتات من دولار 1970، وأن إنتاج الولايات المتحدة كان في العام 1970 بساوي 40 مليار أونصة ذهب بينما إنتاجها في العام 2016 بعد زهاء نصف قرن ومضاعفة عدد السكان بات يساوي 11.4 مليار أونصة وهو ما يعني أن حصة الفرد الأميركي اليوم هي أقل من 15% من حصته في العام 1970 آخر عام من عمر الرأسمالية .
لن ننتهي أخيراً قبل أن نسجل بالغ أسفنا لأن القراءة الماركسية للتاريخ لم يتعلمها العامة بعد .
التعليقات