يُقرأ التاريخ قراءة صحيحة واحدة وهي القراءة العلمية والموضوعية التي كان قد قرأها كارل ماركس قبل مائة وسبعين عاماً. وقائع التاريخ بعد ماركس ورفيقه إنجلز أثبتت أن القراءة اللينينية كانت قراءة ماركسية صحيحة طبقاً لتفسير رفيقه ستالين حيث انتقل العالم، كل العالم، من تاريخ إلى تاريخ آخر، من تاريخ ما قبل الاشتراكية إلى تاريخ الإشتراكية وما بعد الاشتراكية. تاريخ الإشتراكية وما بعد الاشتراكية االسائد اليوم يزخم بوقائع شائكة ومعقدة تضلل عامة من يقرؤون التاريخ وقد حدثت بسبب ظروف استثنائية جداً أهمها تحول ألمانيا إلى النازية والإنهيار السريع لأكبر إمبراطوريتين رأسماليتين إمبرياليتين، بريطانيا وفرنسا، أمام ألمانيا الهتلرية وترك مسؤولية القضاء على هتلر والنازية إلى الاتحاد السوفياتي وحده وهو الدولة الإشتراكية الوليدة التي لم يتجاوز عمرها عشرين عاماً قضتها بحصار دولي خانق وبمواجهة عصابات تخريب استعمارية وتروتسكية.
نحن نقرأ اليوم تاريخ العالم قراءة لينين في 6 مارس 1919 عندما أكد لقوى التقدم والاشتراكية في العالم أن نجاح الثورة الاشتراكية بات مضموناً، وأن البروليتاريا الروسية هي التي ستقرر مصائر العالم. قاد ستالين البروليتاريا الروسية ونقل العالم من عالم الرأسمالية الإمبريالية إلى عالم الإشتراكية - نعم هناك من يبتسم إبتسامة صفراء ساخرة من هذه القراءة باعتبار أن هذا كلام قديم لا يجدر بعاقل تعقله، لكننا نرد على هؤلاء الذين يسخرون من تعقلنا على أنهم لا يعون من هم ولا الشروط التي تتحكم بهم وبمصائرهم وأن عليهم أن يتفقدوا أنفسهم قبل محاكمة الآخرين. قرأءتنا الماركسية اللينينية العلمية والموضوعية تؤكد أن عالم اليوم بكل شروط حياته إنما هو عالم الهروب من الاشتراكية. هرب الجيش الأصفر (الأحمر سابقاً) بقيادة خروشتشوف من الإشتراكية وجر معه كافة دول المعسكر الاشتراكي سابقاً ؛ وهرب الأغنياء الرأسماليون الخمسة (G 5) من الاشتراكية وولوا أمرهم للبورجوازية الوضيعة، منتجي الخدمات، تستبد بهم وبأموالهم كما في إعلان رامبوييه 1975 (Rambouillet) الذي نعى النظام الرأسمالي، معلناً كفاية الرأسماليين الخمسة الأغنى بخزائن الأموال لديهم بعد أن أرغمتهم الثورة الإشتراكية المتقدمة وجردتهم من محيطاتهم على الإقلاع عن إنتاج البضائع الذي وحده يحقق فائض القيمة، سبب حياة النظام الرأسمالي.
نحن لن نأبه بقراءات متثاقفي البورجوازية الوضيعة للتاريخ حيث أن البورجوازية الوضيعة هي نفسها ضد التاريخ وتختلق كل حيلة لحرف التاريخ عن مساره الطبيعي، وعلينا ألا نتقاعس عن فضح أنصاف الماركسيين الذين يسيئون قراءة التاريخ ويقدمون قراءات باسم ماركس لكنها لا تمت لماركس بأية صلة.
المتمركس المجاز في الإقتصاد الدكتور علي الأسدي، وهو من يمنع التعليق على مقالاته في الحوار المتمدن، نقل عن نظبره المتمركس أستاذ الإقتصاد في جامعة كاليفورنيا الدكتور مايكل روبرتس (Michael Roberts) يقول..
" ففي هذه الفترة الذهبية (1948 – 1973) من تاريخ الرأسمالية لعب قطاع الدولة دورا قياديا فعالا في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، ففيها شرعت أنظمة التكافل المجتمعية ( Welfare State ) فيما لعب قطاع الدولة العام فيها دورا فعالا في تطوير وادارة الخدمات العامة كالتعليم والرعاية الصحية ومكافحة الأوبئة والنقل والمواصلات وضمان وحماية الحقوق النقابية والمهنية وحقوق الإنسان. لقد أتت السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي انتهجتها الحكومات بعد ذلك (منذ البدء بتنفيذ تلك السياسة نهاية ستينات القرن الماضي) على معظم تلك المكاسب عن طريق الغاء بعضها وتقليص البعض الآخر وخصخصة المتبقي ليصبح هدف نشاط الرأسمال الخاص مضاعفة الأرباح على حساب المصلحة العامة بعد أن تم ازالة القيود والضوابط التي حدت من ذلك ".
قراءة الأستاذ الدكتور مايكل روبرتس للتاريخ منذ العام 1947 وختى اليوم تخالف الواقع مخالفة تامة لا يستسيغها عاقل حيث العكس تماماً هو الصحيح، إذ كانت الحرب العالمية قد قضت على أكبر إمبراطوريتين رأسماليتين إمبريالتين، بريطانيا وفرنسا، ولا يجوز بحال من الأحوال وصف النظام الرأسمالي بعد الحرب بالعصر الذهبي بينما كان فعلاً عصر الإنحطاط والانهيار مما استدعى الولايات المتحدة إلى الشروع بعملية إنقاذ للنظام الرأسمالي في غرب أوروبا وهو محتد النظام الرأسمالي.
قراءتنا الماركسية المعاكسة لقراءة الدكتور روبرتس تقول التالي..
تسعة عشر جيشاً أرسلتها الدول الرأسمالية جميعها خلال حرب التدخل من مارس آذار 1918 إلى مارس آذار 1921 لخنق البولشفية في مهدها وانهزمت جميعها أمام البلاشفة الروس. كان من هذه الجيوش ثلاثة جيوش بريطانية أرسلها ونستون تشيرتشل وزير الحرب آنذاك وهو ما أثقل على خزائن المال لبريطانيا العظمى، التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها مما أثار مجلس العموم ضد تشيرتشل وسياساته الحربية وأرغمه على الإستقالة.
نستعيد تلك الوقائع التاريخية كيما نؤكد أمرين..
الأمر الأول وهو تأكيد لينين في خطابه التأسيسي للأممية الشيوعية (Comintern) في 6 مارس آذار 1919 على أن انتصار الثورة الشيوعية على مستوى العالم قد غدا مؤكدا.
الأمر الثاني وهو أن الإمبريالية العالمية بقيادة بريطانيا قد أخذت تدرك أن الثورة الشيوعية قد تأتي على نهايتها في وقت قريب.
أي قراءة للتاريخ لا تأخذ هذين الأمرين بعين الاعتبار لن تكون قراءة صحيحة تفسر التاريخ فيما بعد انتصار البلاشفة على أربع عشرة دولة إمبريالية وتابعة في العام 1921. منذ ذلك الحد التاريخي وانتقال العالم إلى تاريخ جديد، من تاريخ الرأسمالية الإمبريالية إلى تاريخ الثورة الإشتراكية، لم تعد الإمبريالية العالمية بقيادة بريطانيا تمارس الإمبريالية في الجوهر، أي استغلال شعوب المستعمرات عن طريق تلزيمها بشراء فائض الإنتاج الرأسمالي. إنتهجت المخابرات البريطانية (MI6) سياسات جديدة، سياسة مقاومة الشيوعية التي تتطلب فيما تتطلب تخفيف عنت السياسات الاستعمارية. وبذلك أقامت الفاشية في ايطاليا 1922 وأقامت تنظيم الإخوان المسلمين في مصر 1928 وعملت جاهدة على تولي النازيين بقيادة هتلر على السلطة في ألمانيا 1933. كان مخطط المخابرات البريطانية الشيطاني، وهي الموكولة بقيادة السياسات " اللاإمبريالية " الجديدة، هو إقامة مصدات لتيار الثورة الشيوعية الجارف فكان أن سحبت قواتها من مصر باستثناء السويس، وتهاونت مع غزو موسوليني للحبشة والقرن الافريقي، ثم كان التراجع الكبير من قبل تشيمبرلن رئيس وزراء بريطانيا ودالادييه الرئيس الفرنسي أمام هتلر وموسوليني في مؤتمر ميونخ 1938. تشيمبرلن ودالادييه وهبا هتلر النمسا والسوديت من تشيكوسلوفاكيا وباركا احتلال موسوليني للحبشة والصومال ووعداه بأراضي من شرق الأدرياتيك. كان ذلك من أجل تشكيل تحالف إمبريالي فاشي ضد الثورة الشيوعية وقد بات خطرها عليهم جميعاً داهماً.
مصدات تيار الثورة الشيوعية التي بنتها المخابرات البريطانية كان أن صدت النفوذ الإمبريالي أولاً، حيث عملت النازية والفاشية على تحطيم بريطانيا وفرنسا، بل رغب هتلر في مشاركة السوفييت باحتلال بريطانيا نفسها واقتسام مستعمراتها بين الطرفين لكن ستالين تجاهل رغبة هتلر. وحتى الإخوان المسلمين عملوا ضد الاستعمار في مصر , انتهت الحرب العالمية الثانية دون أن يبقى من النظام الرأسمالي غير قلعته الحصينة الولايات المتحدة بعيداً وراء الأطلسي التي ورثت كل مواريث الإمبريالية المنهارة في غرب أوروبا. تميزت الإدارة الأميركية بعد روزفلت الديموقراطي المتعقل بالحماقة المفرطة ؛ فقد أخذت على عاتقها إعادة بناء النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية وأنفقت في سبيل ذلك 12.5 مليار دولار فيما سمي مشروع مارشال في الحرب على الشيوعية وهو ما يعادل اليوم 125 مليار دولار، كما أعادت بناء النظام الرأسمالي في كل من اليابان وألمانيا، وزاد تورطها في هذا السياق فأقامت النظام الرأسمالي في كوريدورات الثورة الشيوعية فيما سميت النمور الستة وأخيراً في الصين. بسبب تلك الحملة الحمقاء على الشيوعية وفي غمرة حربها على فيتنام في العام 1971 وجدت الولايات المتحدة نفسها فجأة على بلاطة، خزائنها فارغة ومصانعها توقفت حيث أسواقها زاخرة بالبضائع الشرق أسيوية الرخيصة. الإدارة الأميركية الحمقاء، بعد الرئيس الكبير روزفلت الذي آمن أن المستقبل للشيوعية، شرعت في مقاومة التاريخ ووظفت كل مقدراتها في مقاومة الشيوعية فأفلست وانهارت قبل أن تهزم الشيوعية.
كيف لدعيّ الماركسية مايكل روبرتس أن يتحدث عن إزدهار في الدول الرأسمالية ما بين 1947 و 1973 حيث خرجت الدول الرأسمالية في غرب أوروبا محطمة تماما بعد الحرب واحتاجت في العام 1948 إلى مساعدة أميركية كيلا تنحاز إلى المعسكر الإشتراكي فكان أن ضخت أميركا في دول أوروبا الغربية 12.5 مليار دولاراً بموجب مشروع مارشال وظلت شعوب هذه الدول تعتاش على البطاقة التموينية في الخمسينيات ؛ أما الولايات المتحدة نفسها فقد وجدت نفسها مفلسة في العام 1971 مما استوجبها الخروج من معاهدة بريتونودز (Bretton Woods) وإعلان عملتها مكشوفة من كل غطاء مما انعكس في تدهور قيمة الدولار في عامي 972 و 73 وكان إعلان موت النظام الرأسمالي، خلافاً لما يدعي المتمركس روبرتس، وإعلان نقود الدول الرأسمالية الخمسة الأغنى نقوداً مكشوفة من كل غطاء مادي وتحول هذه الدول الإمبريالية إلى مجرد مضاربين في البورصة لأجل حماية قيمة صرف عملاتهم. فعن أي ازدهار يتحدث هذا المتمركس !؟
بانهيار النظام الرأسمالي انهارت الدولة الرأسمالية وآلت السلطة إلى البورجوازية الوضيعة وهي الطبقة المتخصصة حصراً بإنتاج الخدمات ؛ إذاك فقط قامت في البلدان الرأسمالية المنهارة دولة الرفاه (Welfare State) وليس قبلئذٍ كما يدعي الأستاذ دعي الماركسية مايكل روبرتس. في الثمانينيات حاولت فلول الرأسماليين في بريطانيا والولايات المتحدة بعث النظام الرأسمالي من الرماد بانتهاج سياسات الليبرالية الجديدة (New Liberalism) ونجحت في رسم مارغريت ثاتشر رئيسة للوزراء في بريطانيا ورونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة، ولم يميّز هذين الرئيسين سوى حقدهما الدفين على الطبقة العاملة، الحقد الذي لم يخدمهما بشيء سوى بالمزيد من التدهور الاقتصادي حيث الطبقة العاملة هي التي تصنع الرأسماليين.
في التسعينيات وما بعدها بدأت ديون الدول الرأسمالية سابقا تتراكم بسرعة حتى وصلت اليوم إلى أكثر من 50 ترليون دولارا مما يدل دلالة قاطعة على أن قوى الإنتاج فيها تحولت بمعظمها إلى إنتاج الخدمات وليس إلى الإنتاج الرأسمالي كما يدعي أستاذ الإقتصاد في جامعة كاليفورنيا مايكل روبرتس.
الإشكال الذي يتمشكل به عامة الشيوعيين والمتمركسين هو تجاهلهم انهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي ؛ ومن باب تبرير جهلهم يطرح هؤلاء التساؤل المأزق التالي.. إذا كان النظام الرأسمالي قد انهار في سبعينيات القرن الماضي فما عساه يكون النظام القائم حالياً في العالم وهو ليس اشتراكياً بالقطع؟
لئن كان الإنتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي قد استغرق زهاء القرن فليس ثمة من شك في أن النظام الاشتراكي المتقدم سيكون في العالم قبل العقد الثامن أو حتى السادس من القرن الحالي. العالم اليوم في فترة عبور إلى النظام الاشتراكي أو الأحرى اللانظام الاشتراكي. تلك حقيقة على العالم أن يقف عندها لأكثر من عقد.
التعليقات