"طفل صغير طلب من أنشتاين دولة لليهود 
وأحزاباً كردية بكاملها لا تريد دولة للكورد"
مليكة مزان


لعل رغبة بعض الأنفار في الإقليم من شوقهم المحراق للمكوث إلى ما لانهاية على عتبات الجيران من جهة، وحرص الدول الاقليمية على إبقاء الكرد كتوابع ولواحق لكياناتهم القومية من جهةٍ أخرى، أعادتني بالذاكرة إلى حدوتة طريفة جرت مع أحد القرويين الأميين في بازارٍ بازارات يوم الاثنين في بلدة جنديريس* منذ حوالي خمسين سنة، وكذلك بما قاله منذ فترة وجيزة المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، حيث كان القروي عارف عشبرك بصدد شراء قماشٍ لروبٍ نسائي لحريمه، وبعد أن اختار اللون ونوع القماش، قرّر شراءه، إلاّ أن ملامح خلاف القروي بدأت تظهر مع صاحب البضاعة على السعر، وبعد المساومةِ كان صاحب البسطة قد طالب عارف بثلاثة أرباع ليرة سورية ثمناً لبضاعته، إلا أن السيد عارف أصر على أن يكون المبلغ ليرة واحدة، وكلما حاول البائعُ إفهام عارف بأن الليرة أكبر من الأرباع الثلاث، جدّد عارف إصراره ورفع عقيرته أمام العامة بوجه الرجل، وهو يقول: لن أقبل بأكثر من ليرةٍ واحدة ثمناً لقطعة القماش، وعند احتدام السجال الذي كاد أن يصل للعراك بالأيدي، تدخل الجيران بينهم واستمعوا إلى خطاب الطرفين، عنئذٍ عرفوا بأن عارف لا يعرف الحساب ولا يفقه الحدود بين حقه وحقوق غيره، ولا يعي ما له وما عليه، عندها ما كان من رجلٍ حاذقٍ من بين الحضور ممن فَهِمَ من خلال ما سمع، بأن عارف لا يجيد موضوع الاقتصاد مطلقاً، وكل ظنه بأن الليرة أقل من ثلاثة أرباعها، عندها قال الرجل الوسيط لعارِف من فضلك أعطني ليرة واحدة فقط كما تبغي أنت، فأعطاه الليرة، وعندما تناولها الرجل من يد عارف، قال للبائع أعطني الربعَ، فأعطاه الربعَ بعد أن أخذ البائع باليد الأخرى الليرة من الرجل، عند ذاك مدَّ الرجل يده إلى عارف وقال له خذ هذا لك، حقك، وغادِر المنطقة حالاً قبل أن يتراجع صاحب القماش، وهكذا انحلت المشكلة بمعية الناظر على القضية من بعيد، إذ أُعطي لعارف ربعه بالرغم من جهله بما كان له، وكذلك جهله سبب إعطائه الوسيطَ ذلك الربع، لذا فكما كان حال عارف الجاهل بحقوقه ومستحقاته، ثمة أنفارٌ جهلاء مثله في إقليم كردستان لا يزالزن قيد الاقتناع بأن الرضوخ الجزئي للغير أفضل من السيادة الكلية، وأن الاستقلال بتصورهم أقل قيمةً من الخضوع والتبعية. 

ولكن الفرق بين عارف الذي كان يجهل حقوقه، وبين بعض أنفار الإقليم الذين يعاندون نيل مستحقاتهم الوجودية كقومٍ مستقل عن باقي أقوام المنطقة، هو أن عارف كان بحق إنساناً أمياً ولم يكن ليجيد القراءة والكتابة، ولا كان قد حضر جلسات الذكر بين يدي الشيوخ والملالي ليكون قادراً على فك الخطوط، بينما معارضو مستحقاتهم في الإقليم فهم من أصحاب الشهادات العليا، وممن يدّعون بأنهم الأكثر تحضراً في الإقليم، إلا أن تطورهم ذاك يدفع المراقب ليقول: لعلّ كل حضارتهم ومعارفهم لم تجعلهم ليكونوا في سوية ذلك الطفل اليهودي الذي تحدثت عنه الشاعرة الأمازيغية مليكة مزان، بل ولعل خير ما يلقم هؤلاء العوارف، هو ما صرح به المفكر الغربي المعروف على الصعيد العالمي والمشهود له بعلميته وفلسفته القائمة على تحقيق العدالة الإجتماعية والسياسية على المستوى العالمي ألا وهو الأمريكي نعوم تشومسكي الذي كان يستشهد بآرائه الشيوعيون والقوميون العرب فيما يتعلق بانتقاداته اللاذعة للإدارة الأمريكية حتى يوم أمس، إلا أنني أكاد أقارب اليقين بنسبة 90%، بأنه بناءً على ما كتبه تشومسكي عن الاستفتاء الذي سيقام في الـ: 25/09/2017 في اقليم كوردستان العراق قد يعود معظم من كانوا يستشهدون بآرائه حتى الأمس إلى الطعن به وربما اللجوء إلى تخوينه أيضاً، وقد يقولون عنه بأن ذلك البروفيسور ليس أكثر من مفكرٍ إمبريالي على شكل الاسفين، وجاء فقط ليدعم المشاريع التفتيتية في المنطقة!

فيما المثير للاهتمام في خطاب المفكر الأمريكي هو أنه كرر بصيغة أخرى ما قاله يوماً الراحل مصطفى البارزاني "لا أصدقاء سوى الجبال" حيث أكد تشومسكي ذلك الكلام بقوله: "فلتكن آمالكم معقودة في جبالكم ولا قوة أخرى من دون ذلك"، وحض المفكر الأمريكي الساسة الكرد على التحرر من ربقة الأنظمة الغاصبة لكردستان وهو يقول: "حرروا أنفسكم من الاحتلال الايراني والعراقي والسوري والتركي في أية فرصة سانحة لا تترددوا في المبادرة".

وعن الذين يسوقون المبررات التي تحضهم على البقاء في العتبةِ والمكوث قرناً آخر بين الحُفر، ويكررون عين ما تمليه عليهم وسائل إعلام الأنظمة المستبدة في المنطقة، مع أن هذا الوقت الذهبي لتحرر الكرد من تبعية الحكومات المركزية قد لا يأتي مرة أخرى بعد عقودٍ من الزمان، وأن على الكرد أن يكونوا أذكياء ويستثمروا الظروف الحالية لمصلحتهم القومية، وأن لا ينخدعوا كالمرات السابقة بالوعود الكاذبة للأنظمة الغاصبة لبلادهم، يؤكد تشومسكي: "في السياسة الدولية لا يوجد أصدقاء، الجميع يعمل من خلال مصالحه، ولإدارة شؤونكم ومصالحكم عليكم أن تتبعوا ذات القانون ، خاصة وأنتم تعلمون أن أعداءكم كثيرون، وإذا ما سنحت لكم أية فرصة ما عليكم إلا انتهازها واستثمارها لصالحكم"، وأن على الكرد أن لا يدخلوا مجدداً في المراهنات الاقليمية ووعود وتسويفات الأنظمة".

عموماً فبالرغم من وجود المئات من أمثال عارف عشبرك في إقليم كردستان العراق، ممن لا يعرفون كنه حقوقهم ومستحقاتهم، إضافة إلى وجود أنفارٍ لا يميزون بين المكوث صاغرين في قاع التبعية أو الوقوف بشموخٍ على جبل الاستقلال، يبقى أن الذي يُثلج الصدور وربما يجعلنا نتسامح مع الجهلاء بحقوقهم، هو تأكيد مستشار مجلس الأمن في الإقليم مسرور البارزاني بقوله: "إننا اخترنا طريق الاستفتاء وسنقرر مصيرنا"، منتقداً بذلك مواقف الشخصيات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وكذلك الدول التي تتحجج قائلةً بأن الظرف غير ملائم ليعيش الكردي سيداً على نفسه وأرضه وبيته، وهم يبثون عبر وسائل إعلامهم بأن الوقت الراهن غير مناسب لإجراء الاستفتاء، فيستأنف البارزاني إيراد حجةٍ مهمة وناصعة كالشمسِ وهو يقول: "حينما كنا نتعرض للأنفال والقصف بالأسلحة الكيماوية لماذا لم تقل أي دولة من تلك الدول الحريصة على وحدة العراق إن الوقت ليس مناسباً لقصف الكرد بالكيماوي؟!".
ــــــــــ
جنديريس: إحدى نواحي منطقة عفرين التابعة لمحافظة حلب السورية.
عارف عشبرك: مشتري القماش الذي كان على اعتقادٍ دائم بأن المفرد في مجال الاقتصاد يبقى أقل ضرراً من الجمع مهما كان نوع الجمع.