لا شك أن الجولة الخارجية الحالية التي يقوم بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والتي بدأت بزيارة مصر، وتشمل بريطانيا والولايات المتحدة، تنطوي على أبعاد ودلالات استراتيجية مهمة للغاية.

لا يمكن اختزال أهمية الجولة في كونها الجولة الخارجية الأولى لولي العهد السعودي، منذ توليه ولاية العهد، رغم أهمية هذا الأمر ضمن اعتبارات التخطيط الاستراتيجي، فهناك جوانب أخرى لا يمكن القفز عليها في تحليل أبعاد الزيارة أولها توقيت الجولة والدول التي تشملها، فهي تأتي مباشرة عقب انتهاء ولي العهد السعودي مما يمكن وصفه بترتيب البيت الداخلي سواء عبر تدشين رؤية المملكة 2030، أو بعد الانتهاء من تسوية ملف الفساد وغير ذلك من قضايا وأمور داخلية استحوذت على اهتمام القيادة السعودية طيلة الأشهر الماضية؛ وهذا يعني أن اجندة الجولة تنطلق من معطيات الداخل السعودي ومتطلباته في إعادة ترتيب أوراق العلاقات السعودية مع الدول المحورية اقليمياً ودولياً.

تابع العالم أجمع زيارة ولي العهد السعودي إلى مصر، والتي جاءت بشكل يختلف تماماً عن المعهود في زيارات القادة السعوديين السابقين إلى مصر، حيث شملت زيارات ولقاءات ومشاركات عاكسة بوضوح للسعودية الجديدة، ورؤيتها المستقبلية للعالم والحضارة والثقافة والتنمية، إذ شملت الزيارة مجمل هذه المحاور، وسلطت الضوء بقوة على توجهات القيادة السعودية في السنوات والعقود المقبلة، حيث جرى العمل على ما يمكن تسميته بإعادة تعريف العلاقات وتموضعها وفق أسس وركائز جديدة قائمة على المصالح المشتركة للدولتين العربيتين الأكثر تأثيراً، وبما يضمن تمتين هذه العلاقات والحيلولة دون انزلاقها إلى "أفخاخ وشراك" تعمل الكثير من الأطراف على "نصبها" للدول العربية من أجل الوقيعة بينها ودفع العلاقات إلى مربعات التوتر.

من هنا يمكن فهم مشتركات التنمية الاقتصادية التي جرى الاتفاق عليها، ولاسيما مشروع "نيوم" الذي بات محور تنمية عربية مشتركة تجمع السعودية ومصر والأردن، في إطار عمل عربي تنموي مشترك يحقق مصالح الشعوب من دون الاكتفاء باجترار الحديث عن المصير والتاريخ واللغة المشتركة، وكلها عوامل مهمة قطعاً وركائز تسهم في تقوية وتسريع العمل المشترك، ولكنها يمكن أن تظل مجرد بواعث كامنة ما لم يتم ترجمتها لعمل حقيقي كما يحدث الآن بين القاهرة والرياض.

 

سياسياً واستراتيجياً، اتفق الجانبان على "مواصلة العمل معاً من أجل التصدي للتدخلات الإقليمية ومحاولات بث الفرقة والتقسيم بين دول المنطقة"، وجدد الرئيس المصري من جانبه التأكيد على أن "أمن دول الخليج جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري"، مشددًا على "عدم السماح بالمساس به والتصدي بفعالية لما تتعرض له من تهديدا"، وكل كلمة من هذه الكلمات لها معناها ومغزاها وتوجه رسالة محددة لمن يهمه الأمر من القوى التوسعية الطائفية والحالمين باستعادة أمجاد التاريخ على حساب الدول والشعوب العربية والخليجية في لحظة يعتقد هؤلاء أن أوهامهم باتت قابلة للتحقق!

ويدرك كل المتخصصين أن تكاتف السعودية ومصر يمثل ضمانة أساسية للبحث عن حلول للقضايا والأزمات العربية، في سوريا واليمن وليبيا، فضلاً عن ملف مكافحة الإرهاب والتصدي للدول الراعية والداعمة له، فضلاً عن تدعيم الأمن القومي العربي وتحصينه في مرحلة يعيش العالم فيها مخاض توترات وصراعات وتنافس قطبي يمكن أن يضر بمصالح ومكتسبات الدول والشعوب العربية ما لم يتم بناء توافقات استراتيجية بشأن كيفية التعامل مع التحديات والتهديدات كافة.

زيارة ولي العهد السعودي إلى بريطانيا والولايات المتحدة أيضاً ستكون في مهمة للغاية لجهة التنسيق مع القوى الكبرى من أجل إعادة الأمن والاستقرار للمنطقة العربية، فبريطانيا، تاريخياً وراهناً، شريك استراتيجي لدول مجلس التعاون، وفي مقدمتها السعودية، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة، لذا فإن محادثات ولي العهد السعودي مع قيادتي البلدين ستسفر عن نتائج وتفاهمات مهمة.

الجولة في مجملها تستحق أن تقرأ بمنظور خاص يعي الخطوات السعودية الجديدة نحو المستقبل، وينطلق من الرؤية التنموية للقيادة السعودية التي تعيد هيكلة صورة المملكة النمطية وفق معطيات حقيقية يشهدها الداخل السعودي، ويتابعها العالم أجمع باهتمام وتركيز شديدين، وهي تحولات كفيلة بإحداث نقلة نوعية هائلة في التوجهات الثقافية والفكرية السائدة في المنطقة العربية، بحكم مكانة المملكة وموقعها الروحي بالغ التأثير في قلب العالمين العربي والإسلامي.