مؤرخ ولد قبل الثورة البلشفية بسنة، وعاصر النهوض الفاشي، واعتنق الماركسية من دون أي تخلٍ حتى مع انحسارها، وشهد أهوال حربين عالميتين، وتوفي في عز الربيع العربي، ليكون عاش فعلًا كما قال القرن الأفظع في تاريخ البشرية.

لندن: في الساعات الأولى من صباح الإثنين، أسلم المؤرخ البريطاني المشهور إيريك هوبسباوم الروح في مستشفى رويال فري في لندن، عن 95 عامًا، بعد معاناة مع ذات الرئة. وصرّحت ابنته جوليا هوبسباوم خلال اتصال هاتفي مع وكالة فرانس برس quot;توفي إثر التهاب رئوي في الساعات الأولى من الصباحquot;.
وأضافت أنها quot;خسارة كبيرة بالنسبة إلى مارلين زوجته منذ 50 عاما وأم أولاده الثلاثة وجدة أحفاده السبعة، وأيضا إلى آلاف القراء والطلاب في العالم أجمعquot;.
وهوبسباوم مؤرخ درج على الماركسية منذ كان فتيًا، ورحل عن هذه الدنيا مخلفًا أكثر من 30 كتابًا أذاعت صيته، أشهرها على الاطلاق تأريخه للقرن العشرين في ثلاثية quot;عصر النقيضينquot; The Age of Extremes، الذي ترجم

المؤرخ إيريك هوبسباوم امام مكتبته

إلى 40 لغة، وكتابه quot;كيف نغيّر العالمquot;، المنشور في العام 2011.
عاصر النقيضين
ولد إيريك هوبسباوم في مصر في العام 1917، لوالدين يهوديين. وكان لولادته في عام تفجرت فيه الثورة البلشفية في روسيا وحوّلتها إلى الاشتراكية أكبر الأثر في نفسه، فتمحور عمله وتأريخه حول التزام بمبادئ الماركسية ما حاد عنه، حتى بعدما أفل نجم هذه الإيديولوجيا وانحسرت في العالم الحديث.
انتقل مع والده البريطاني ووالدته النمساوية إلى فيينا حين كان بعد في الثانية من عمره، ثم إلى برلين. وما إن بلغ الرابعة عشرة حتى انضوى تحت لواء الحزب الشيوعي. وكان حينها فقد والديه وانتقل للعيش في كنف عمه. وهكذا، لعب معه التاريخ لعبة الحظ ثانية، إذ شهد انطلاقة الهتلرية.
يقول في إحدى المقابلات الصحافية: quot;لم يكن بوسع من عاصر فورة هتلر عن قرب إلا أن يتأثر بها، أو حتى يتشكل بها، من الناحية السياسية، فذاك الصبي يدخل القلب ولا يخرج منهquot;، وهو بالتالي ناسب الماركسية وعاصر نقيضتها النازية.
في العام 1933، انتقل هوبسباوم إلى لندن، فرارًا من قبضة هتلر الحديدية التي أطبقت على ألمانيا وحولتها إلى النازية. وبعدما نال شهادة الدكتوراة من جامعة كامبريدج، نشر أول كتبه في العام 1948. وكان قد عيّن مدرسًا في جامعة بيركبيك في لندن، وبقي فيها حتى أمسى رئيسها.
أفظع قرن
يقول هوبسباوم إنه عاش أفظع قرن في تاريخ البشرية جمعاء. فهو عاصر ارتفاع الماركسية وانقراض دولها. وفي هذا الاطار يؤكد أن فشل الدولة الماركسية لم يدفعه أبدًا إلى تغيير طريقه عن الماركسية، وانه quot;لا يريد أن يعرفه العالم بمن أبقى الراية مرفوعة فحسب، بل بمن آمن أن التلويح بهذه الراية مجدٍ جدًا حتى لو انحصرت الجدوى ببعض الكتب الجيدة يقرأها بعض الناسquot;.
إيد ميليباند، زعيم حزب العمال البريطاني، يصف هوبسباوم بالمؤرخ quot;الاستثنائي والرجل المندفع بحماسة وراء مبادئه السياسيةquot;. يضيف: quot;رسخت مؤلفاته مئات من أعوام التاريخ البريطاني في مئات الآلاف من البشر، وأنزلت التاريخ نفسه من برجه العاجي إلى يوميات الحياة البشرية. فهو لم يكن أكاديمياً ناجحاً فحسب، بل اهتم بوجهة البلاد السياسيةquot;.
المؤرخ لا السياسي
وتعدى صيت هوبسباوم الحدود الأوروبية، وعرف في الدول العربية. فقرأه المثقفون الذين درجوا حذوه أدراج حركات التحرر الثوري العربية، وتأثروا به. أبرز هؤلاء الشاعر والكاتب سعدي يوسف الذي كتب عنه قائلًا إن هوبسباوم quot;أعادَ ثقتي بالتاريخِ عِلمًا، وبالمؤرّخِ عالِـمًا، بعد أن صار الـمَحْــوُ الأداةَ الفضلى في النظرِ والتنظير.quot;

يضيف يوسف: quot;هوبسباوم يقدِّمُ لك جرعةً شــافيةً كافيةً من الحقيقة والمعلوم، تجعلُكَ على بَـيِّـنـةٍ من الظاهرة، آنذاك يدخل، هو، حذِرًا، متوجِّـسـًا من القطعِ برأيٍ، ويأخذ بيدِكَ، آخذًا رفيقًا كي تصِلا، معًا، إلى نوعٍ من التثَـبُّتِ يسمحُ بإبداءِ الرأيquot;.
وبالنسبة إلى كاتب مفكر كيوسف، quot;الرجـلَ يُقـنـعك بجرعة حقائقه الشافية الكافية، أن لا مكان أو معنى للتفاؤل، في عالمٍ اختار السير إلى الهاوية والإطلال عليها اختيارًاquot;. فالتفاؤل في ظن يوسف صفة السياســي الكاذب، وإريك هوبسباوم مؤرخ لا ســياســي.
سخط مشترك
هويسباوم افرحته الثورات العربية
انقضى القرن الأفظع، وامتد العمر بهوبسباوم ليعاصر نوعًا آخر من الثورات، تلك التي قامت في بلاد العرب لتؤلف الربيع العربي المنتظر.
ينظر هذا المؤرخ مليًا في هذه الثورات ويعبّر عن فرح غامر quot;إذ يكتشف المرء أن الناس قادرة بعد على الخروج إلى الشوارع للتظاهر ولإسقاط حكومات لا يريدونها.quot;
يقول في حوار صحافي مع هيئة الاذاعة البريطانية في كانون الأول (ديسمبر) 2011: quot;تذكرني هذه الثورات العربية بالعام 1848، حيث بدأت هناك ثورة تلقائية في دولة واحدة، ثم انتشرت عبر كل القارة في وقت قصير جدًا. وبعد عامين، بدا الأمر وكأن الثورة قد فشلت، لكن تم إحراز قدر كبير من المكاسب الليبرالية. لذا، كان ذلك فشلًا موقتًا ونجاحًا جزئيًا من دون أن يتخذ شكل ثورة .quot;